ليس المقصود من هذا المقال وزارة الثقافة العراقية، القائمة الآن، أو اللواتي سبقنها في الظهور. فليست لدي معرفة كافية بهن، تؤهلني للحديث عنهن. ولم يحدث أن وطأت قدماي عتباتهن في يوم من الأيام.
ولا شك أن الجميع يعلم أن منصب الوزارة لم يكن يعني في الأنظمة السياسية القديمة جهازاً حكومياً ضخماً، ينتظم تحته الآلاف من الموظفين، وتتبع له عشرات الدوائر والمكاتب والفروع، مثلما هي عليه الحال اليوم. بل كان يضم في العادة شخصاً واحداً مع مجموعة صغيرة من الأعوان. ولم تكن مهمة الوزير تقتصر على جانب بعينه، بل تشتمل على شؤون المملكة بأجمعها. فقد كان البرامكة مثلاً يتولون إدارة دولة بني العباس في القرن الثاني الهجري، ويهيمنون على مركز القرار فيها. ولم يكن من الواضح من هو الوزير في هذه الأسرة، أهو يحيى أم ابناه جعفر والفضل. فقد كان الثلاثة هم الحكام الحقيقيون في حقبة ما، وكلمتهم نافذة في الجيش والإدارة والقضاء والسياسة والعلاقات الخارجية وغيرها.
ولكنني كنت أقصد أشخاصاً بعينهم، كانوا هم لوحدهم يمثلون وزارة ثقافة كاملة، في وقت لم تكن هذه الكلمة – الثقافة – قد عرفت بعد. وكانوا يلمون بمختلف أنواع الآداب والعلوم، ويصدرون عشرات الكتب والرسائل، ويحتفظون بمئات الطلبة والمريدين. وكانوا يقومون بمهمات جليلة لا تقوى عليها المعاهد أو الجامعات، أو المنظمات الأهلية أو المجامع العلمية، اليوم.
كان رجل مثل الأصمعي يجوب البوادي والقفار لالتقاط الشاذ والنادر من كلام العرب، ويحفظ آلاف الأراجيز والقصائد، المتداولة على الألسن، ويلم بالوقائع التأريخية في الجاهلية وصدر الإسلام. فكان لوحده وزارة ثقافة أمدت النخبة بمعلومات هائلة، ونصوص غزيرة. وكان مصدراً لا يستغنى عنه في اللغة والأدب والتأريخ.
وكان الجاحظ يؤدي دوره على أكمل وجه في توجيه العقول، وصناعة الأفكار. فيقوم بتصنيف كتب استعصى حصرها في الأدب والشعر وعلم الكلام والنبات والحيوان والسياسة والتأريخ والأخلاق وغيرها . كما كان ابن سينا يضع الموسوعات العلمية في الطب والفلسفة والرياضيات والعلوم والموسيقى. حتى بلغ ما صنفه من كتب ورسائل أكثر من مئتي مصنف!
وقد برع هؤلاء في كتاباتهم أيما براعة، وتفوقوا في إنجازاتهم أيما تفوق، دون عون من جهة، أو دعم من سلطة. في حين عجزت مؤسسات ضخمة في هذا العصر عن تلبية جزء صغير من هذه الأعمال.
إن مهمة الثقافة هي تشكيل الوعي الاجتماعي والفكري والسياسي لدى الناس، ووضع قواعد للبناء والتنمية والتطوير. وإذا كانت هذه الأهداف قد تعددت واتسعت وتعقدت في هذا العصر، وباتت بأمس الحاجة لوضع خارطة طريق تنهض بها المؤسسات وتخصص لها الأموال. فإن هناك الكثير ممن تطوع بمفرده لأداء هذه المهمة دون انتظار أي مردود مادي أو معنوي. وطفق يعمل بدأب بغير ما ظهير أو معين. فللثقافة سحرها الذي يستهوي البعض، ويملك حواسهم، ويشغل عقولهم، في كل زمان ومكان!
محمد زكي ابراهيم
وزارة الثقافة !
التعليقات مغلقة