أسعد عرابي
يبدو أن الفن البرتغالي عاد ليفرض مساهمته في الحداثة الأوروبية من خلال عبقريتين أنثويتين استثنائيتين: عازفة البيانو الأولى في الكوكب الموسيقي الراهن ماريا بيريز، والفنانة التشكيلية (تصوير بالباستيل على قياسات عملاقة ورسم تخطيط وحفر معدني) بولا ريغو، التي تعرض حالياً سبعين من أبرز أعمالها التعددية في تقنيتها وجنونها تحت عنوان: «الحكايا الرهيبة»، تحتل جدران «متحف الأورانجوري» في قلب العاصمة. ابتدأ العرض منذ النصف الثاني من أكتوبر من العام الماضي، واستمر حتى منتصف كانون الثاني من العام الجاري.
لم يكن ممكنًا تحقيق هذا العرض اللائق بأصالتها إلا من خلال التعاون الحثيث من قبل عدد من المؤسسات والمتاحف وعلى رأسها المتحف الفرنسي «أورسي» والمتحف اللندني «مالبورغ»، وهي مولودة في لشبونة عام ١٩٣٥م، هربت شابة من القهر السياسي والاجتماعي إلى لندن لتدرس الفن، ثم تمسّكت بالإقامة فيها أكثر من نصف قرن حتى اليوم. تعتبر المرأة الوحيدة في تشخيصية «مدرسة لندن». فرضت موهبتها بسرعة ضمن هذا الوسط الوعر، فأصبحت جزءًا منه من خلال احتكاكها وعروضها المباشرة مع أعمدته الأساسية: فرانسيس بيكون ولوسيان فرويد ودافيد هوكني وهاملتون، هو المعرض الأول لها في باريس. نتعرف على عبقريتها لأول مرة وقد تجاوزت عمر التسعين.
اللوحة: نافذة اللاوعي على كوابيس الواقع
دعونا نعبر إلى العوالم الحميمة الشطحية لهذه العبقرية، والمنتزعة في توليفاتها الاستعارية والاستحواذية على المناخات السردية والواقعية غالبًا من تجربتها الملحمية المتحرقة، ما بين هواجسها الطفولية المهيضة الأجنحة، ومعاناة المرأة البرتغالية في نضالها لانتزاع «حق
الإجهاض». ثم انسحابها بعد فقدها لزوجها مبكرًا إلى عالم الحلم واللاوعي و«الليبيدو» (المحرمات) الفرويدية، بل وأشد حدة من خلال السلوك الاحتدامي والإضطرابات الهمودية والتوحد العزلوي الإحباطي. هو الهم الوجودي المأزوم بالتداعي الصوري (أحيانًا الموثق عن الواقع الوصفي الفوتوغرافي)، من هنا تبدو العلاقة وثيقة مع النظائر الروائية أو الحكائية أو الميثولوجية السردية، بمثالها المغامراتي الهذياني الطفولي: «أليس في بلاد العجائب»، مع جنوح دؤوب إلى التوجّس الكابوسي والهواجس الممسوسة بالسحر والتطيّر والكائنات التعويذية، بتعددها الخيالي النخبوي وبتعدديتها الزمانية والمكانية الشمولية.
تعتمد بولا ريغو في مهرجان شخوصها على «التوليف» وضمن مروحة اختيار رحبة. لكن هذه الاستعارات المتباعدة بين المحدثين والقدامى والمعاصرين تخضع لقوة تفرّد عالمها الداخلي. تختار في استحواذاتها ما يتناغم مع خصائص مناخاتها الحلمية -الكابوسية. تبصمها بأسلوبها المتفرّد. تكشف هذه الملاحظة مفتاح أصالتها: منتهى التفرّد وذروة الشمولية والانفتاح على تراكمات خبرات الآخرين خاصة النخبة: تستحضر منذ بداياتها الحشود
الاستفزازية التي تتسم بعنف سادية تاريخ التحولات الاجتماعية في الشهادات الصاخبة والفظائعية لفرانشيسكو جويا. هو رمز للتوأمية الثقافية بين إسبانيا والبرتغال، بما فيه معاناة الفنانين من دكتاتورية فرانكو (مدريد) وسالازار (لشبونة). ناهيك عن الغلاقة السحرية مع الفراغ . استقى جويا طيران شخوصه من سابقه الجريكو وفنانتنا بدورها استعادت هذا التحليق البشري في فراغ إحباطي ميثولوجي كابوسي.
يصل استفزازها الواقعي الصادم إلى ذروته مع سخرية العرائس والأقنعة المستعارة مباشرة من البلجيكي إنسور، أو الشخوص الحالمة في تصاوير الإنكليزي هوغارث. في لوحة رقص الفالس الشهيرة تستعير نسق التظليل الميتافيزيقي من الإيطالي شيريكو وهكذا. هي لا تقل أهمية عن أعمدة «مدرسة لندن» الواقعيين الذين مر ذكرهم، وقد تتفوق عليهم في موهبتها الخارقة في الرسم والتخطيط كما تثبته نماذج العرض المدهشة.
تنصهر في بوتقة أسلوبها الواقعية الوصفية السينمائية التوثيقية بما تحفل به من تداع صوري كما هي المدرسة الإنكليزية من جهة والحشد الباروكي الموروث عن الفنون الشعبية أو النخبوية البرتغالية. تعتمد في اختيارات موضوعاتها المأزومة (التي تعكس معاناتها الأنثوية) على تعددية متباعدة في الموضوعات، يجمعها نفس الأرق والحيرة الإحباطية. هي التي تمشي في كل مرحلة بعكس التيار الفني العام أو الغالب. وهو ما يفسّر تأخّر اكتشاف خصوبة مناخاتها السردية.
يجتمع في تكويناتها الموحشة أصناف البشر، خاصة الأنثى التي تقع بين الطهرانية والفجور. ثم اقتناص تحرقات الجسد النزق الذي ينبش بمخالبه الأرض بطريقة هستيرية همودية معاشة. ثم عذابات الطفولة، والحيوانات الإبليسية، وجنون السيرك والمهرجين، والغرف المغلقة السكونية المتوجّسة برعب مديد ومزمن، حلمي كابوسي قيامي عزلوي اغترابي. كثيراً ما تصوّر مرآتها في المحترف، عالم اكتئابي لكنه يضجّ بالحيوية والإثارة، بديناميكية اللون والخط وصفعات الفرشاة وأقلام الباستيل. حشود متنافرة الأمزجة والحكايا، لا يجمعها سوى سلوك أنامل بولا ريغو، ورعشتها التي لا تبارح وجدان المشاهد، ورغبته المزمنة في محاولة فك ألغاز شخوصها وأسرار الجذب الذوقي الغامض.
* ضفة ثانية