رحيم زاير الغانم
يعد نص المدينة من النصوص البصرية التي تشدُّ المتلقي إليها, لما تمتلكه من خصائص معمارية في مجملها خطاب مديني, على اعتبار انه نتاج انساق الناس الثقافية, لتتمثل طرازاً معمارياً معبراً عن الأنساق الثقافية الشعبية, مشكلا معمار المدينة في تواشج نسقي, لترسيخ هوية المدينة في ضوء المعطى الآنف الذي برَّزَ لنا الثقافة المدينية الشعبية بعنوانها العريض, بعد وضع اللبنة الأولى لنموذج طراز معماري للبيوت فالأزقة, في ضوء نواميسٍ معمارية لايمكننا فصلها عن السلوك الإنساني المحض, في تماهٍ جلي بين سيميائية الطراز المعماري وتوجهات السلوك, التي انتجت الهوية الثقافية، مما اعطى للمتلقي اريحية التلقي والتأمل وانتاج المعنى.
ان مدينة العمارة (مدينة متصالحة مع نفسها وأهلها) بحسب ما جاء في كتاب (ماجد الحسن) الموسوم (حياة العلامة ــ محاولة لإدراك أنساق الثقافة الشعبية) محور معاينتنا في هذه الورقة، فالعمارة المدينة التي انشئت في القرن التاسع عشر, لم تنشأ بلون او عرق واحد, بل مدينة متعددة الاعراق, منذ النشأة الأولى، فلا غرو ان يبدو نص المدينة متوحداً مع الطراز المعماري الذي درج عليه هذا النص، وما تسمية محلة (التوراة) التي تقع في قلب مركز مدينة العمارة إلّا دليل للألفة التي يسعى الناس للحفاظ على ديمومتها في هذه المحلة على سبيل المثال لا الحصر, وهذا سرٌّ من اسرار ألفتها وحميميتها التي فاضت على طبيعة المعمار, حيث البيوت هي الأخرى متماهية والسلوك الإنساني, اذ بدت متلاصقة حدَّ الاتكاء على بعضها, على الرغم من اختلاف المساحة أو التفاوت الطبقي بين الناس, حتى الواجهات التي بمجملها من الشناشيل تلتقي في جزئها العلوي كعلامة من علامات الألفة والحميمية التي شكلت نسقاً متوارثاً لأجيال, مُنتجة الاطر العامة لنواميس المدن, فللمدن نواميسها التي لا يمكن خرقها, بوصفها نتاج فعل إنساني حقيقي, والفعل نسق بحسب الفيلسوف (سبينوزا), لذا عندما نقرأ نص المدينة يجب قراءة طرازه معمارياً وقراءة افراده سلوكياً, فهما من ينتجا الهوية الثقافية لسكان المدن.
أما العتبة لها امتداد علاماتي للألفة بين الناس, في انتاج لمعنى تصاعد السلوك الإنساني, كونها بحسب الكاتب مكان للقاء والتحاور, الذي هو بحد ذاته سلوك إنساني لما فيه من ايحاء بحميمية المكان/ البيت, الذي يفيض على العتبة, فهي بعد كل ما تقدم, يمكننا عدها مكاناً لتجمع الصبية والفتيات للعب في طقس مديني قل نظيره هذه الأيام, أو مكان لتبادل بريد المحبة بين عاشقين الذي لو تكرر لعُد خرقاً نسقياً في وقتنا الحاضر، لا على طبيعة السلوك الإنساني الحياتي حسب, بل خرقاً لسلطة العالم الافتراضي الذي همَّش العواطف ودرجها ضمن منظومة افتراض الاحاسيس.
وبتقادم الزمن نلمح أفول بريق انساق المدينة الثقافية, لتقويض فعل الناس حياتياً, لينتج لنا خطاباً مدينياً مرتبكاً, كون مدينة العمارة اكتفت في تلقي الانساق الواردة إليها من دون فلترتها والتحقق من مدى تماشيها مع انساقها الشعبية التي شكلت خصوصيتها الاجتماعية وهويتها الثقافية, لتتشكل علامة الاغتراب المكاني, من خلال معمار البيوت المغاير للنسق الأصل, او واجهات المباني الهجينة, بعدما كانت مسيسة الصلة بثقافة المدينة.
نجد شاهدا حيا في زمننا الحاضر، إذ ان المستشفى الملكي/ الانكليزي آنذاك, وعلى الرغم من خلفيات المُنشِئ الغربي له, لكنه أُنشِئ برؤية الموّجه المعماري المديني بحسب طرازها المعماري, اي بذات خصائص المعمار المعبر عن هوية المجتمع العماري, على العكس تماما مما يبدو لمتلقي نص المدينة في وقتنا الحاضر حينما يقرأه, يتجلى له تداخل الطراز الصيني والتركي مع الطراز الأصل, في تشويه للنص الاصلي.
ومع ما تقدم لا نلمس فعلاً على ارض الواقع, يُمكننا ان نطلق عليه السلوك الإنساني لمجتمع العمارة قادرٌ على انتاج نسق ثقافي يعبر عن ثقافة المدينة الشعبية, لغياب الوعي الجمعي, لموروثها, ليعيش انسان الزمن الحاضر اغتراباً مكانياً, لتهجين طراز معمار مدينته بآخر لا يمت بقريب او بعيد لا نساقها الثقافية, فلا غرابة لو لم يدرك الجيل الحالي ثقافة ناس مدينة العمارة, فلا تواصل مع رؤى الاجداد, الذين دأبوا على انتاج ثقافة تعتمد الالفة في التعامل, او ادراك اهمية التحاور حتى, ويبقى السؤال: لماذا ننتج ثقافة القطيعة مع انفسنا وأهلنا, مع اننا ورثة من عمدوا الى خلق ثقافة الامتداد الانساني, بذات خيط حرير الالفة ورهافة السلوك النبيل في تقبل الآخر, بوصفه امتداداً لحضوره الإنساني, لا بوصفه الآخر الضد, في حرص على استدعاءٍ لألفة زمن يندرُ تكراره.