مسلّمات وتمثيلات اللحظة الشعرية وغياباتها البليغة
محمد قاسم الياسري
في ديوانهِ «بريد العائلة» الصادر حديثاً عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع/ دمشق 2018؛ يدفعنا الشاعر فراس طه الصكر الى النظر الى الشعر على أنه «أبوريا» تلك الكلمة اليونانية التي تعني «المتاهة» أو «المعضلة» أو «الهوّة» التي لا قرار لها، لذلك سنحرص على مقاربة هذه السلّة الشعرية ثقافياً، ففي النقد الثقافي لم تعد اللغة أداةً لمعرفة الحقيقة، وانما هي أداة لإنتاجها، والقراءة الثقافية تحدث حينما يحدث شيء، وتقوم حيثما هناك شيء قائم، وهذا ما توصل اليه الفرنسي «جاك دريدا» عندما أعلن أن كل قراءة هي سوء قراءة أو قراءة سياسية (هذا ما اعتقده دريدا بالتحديد وقد فتح مجالاً خصباً للقراءات الثقافية من حيث لم يحتسب).
في خضم الراهن العراقي الموبوء بالحروب والفوضى ينبغي على الشعر أن يتأمل ذاته ويتفكر ملياً في تأريخ النظرية الأدبية وجدوى الشعر (والأدب عموماً)، والاحتمالات السياسية القاتمة التي ستعصف بوجوده المستقبلي، وهذا ما وعاه الشاعر جيداً، وليس ذلك ببعيد عن توجهات الشاعر فراس الصكر وهي تمتطي اللغة التواصلية الشفافة التي يمتلكها، اذ يقترح علينا إيجاد علاقة معقدة بين الأيديولوجيا والشعر (=الأدب)، علاقة أكثر تعقيداً من تلك التي تربط الأيديولوجيا بالقانون او النظرية السياسية، لأن الحقلين الأخيرين يجسدان بصورة شفافة اهتمامات النخبة الحاكمة وانشغالاتها: (مؤخراً/ أعرضت الينابيع عن فكرة الصمود/ إذ أن من الحماقة أن تقنع النهر بالجريان/ بينما تخفي عن المياه خرائط الوصول…) ص17. (كان الوطنُ/ ملجأً آمناً للضياع/ وها قد أصبح الجميع/ في متناول الكارثة. !!) ص20. بما أن الجهوية الشعرية تمتلك مرجعاً واقعياً محدداً، فان دلالاتها تبقى مفتوحةً لكل قراءة حاضرة أو مستقبلية بطريقة تمكن عمليات انزياح المعنى أو حذفه-المتسببة عن علاقتها بالايديولوجيا-دائمة الحدوث.
إن علاقة الشعر بمباهج البلاغة علاقة إشكالية لأنها، في الوقت نفسه، علاقة بمشكلات التطابق بين الواقع والتخييل، بين الصدق والكذب، فالعرب قالوا قديماً (أعذب الشعر أكذبه)، أي أن الشعر الذي يعتمد الاستعارة والمجاز والكناية والتورية هو اجمل من الشعر المنسجم مع نفسه، لذا، فان الشعر الممتاز لن يكون أبداً منسجماً مع نفسه، لأنه لو كان كذلك فلن يكون لديه ما يقوله على الاطلاق، فليس هناك اعلاء من شأن تحديقة الصورة المزيفة في جسد المرجع الميت، الا اذا ادرك الشعر حقيقة انه انتاجٌ لـ «صدق» جمالي – ايديولوجي اكثر من كونه انعكاساً لهذا «الصدق». فالشعر لا يتطابق مع الواقع المقلوب على رأسه، الا اذا وجد وسيلة بلاغية تعيد التوازن الى نفسه وهو يتواجه مع الواقع المقلوب. لننظر الى منطوق هذا النص المستلّ من قصيدة «مجرّة الذكريات»: (بيديّ هاتين/ اشرت الى الليل/ فاسودّت أصابعي كلها. / وبالأصابع ذاتها/ أشرت اليكِ/ فاسّاقطت قصائد بيضاء.) ص49 وفي نصٍ آخر يقول الصكر: (لا تسألوا عن الأعداء/ كيف يصلون/ بل اسألوا الأصدقاء/ كيف ضلّوا الطريق.) ص60. اذا لم تكن مباهج البلاغة معرفةً فهي ليست وهماً ايضاً. ان الشعر الحديث يحقق علاقته مع مباهج البلاغة (=المسلمات الصورية) بوساطة أشكاله وانزياحاته، لكنه يفعل ذلك بناءً على قوة تفريعاته البلاغية التي يعمل عليها. ان تمظهرات المسلمات الصورية تقترن مع العمليات التحويلية للصور الشعرية التي تنتجها وتمنحها وجوداً كثيفاً (وليس وجوداً غفلاً)، هي من يحدد الدرجة التي يمكن أن تجعل القصيدة تتوصل الى لمعان مبهر او انطفاء مقرف.
نصوص الهوية
لقد وجدنا في «بريد العائلة» موضوعة الهوية وقد انشبكت مع معظم النصوص بعلاقات تختص بالهمّ الوجداني المتمدد على طول وعرض مساحة الوطن المنهوب: هوية الوجه واليد واللسان، هوية مصدومة مملوءة بالقروح، ليست خائفة من تبصراتها الثاقبة، فهناك مسافة شاسعة بين ما تدّعيه الهوية وما تعرضه، فنمو الخير وسيادته في العالم (او في داخل الوطن) هو في الحقيقة ليس أكثر من فراغ تاريخي، أيديولوجي، محزن جداً. في قصيدة «ممثل عن الوطن» يقول الشاعر: (سأرشحُ نفسي/ في الانتخاباتِ القادمة/ ولا رغبةَ لي أنْ أخدمَ أحداً/ كما أنّني لنْ أُشرِّعَ قانوناً/ ولنْ أستجوبَ وزيراً/ ولنْ أراقبَ أحداً في الحكومةِ/ فقط/ أريدُ أنْ أبحثَ عن الوطنِ/ في أروقةِ الفاسدين …!) ص85. ان اللغة التي تعدّ من بين اكثر التداولات اليومية براءة وتلقائية، هي على حد تعبير «تيري ايغلتون»: (في الواقع أرض مجرّحة، مصدعة ومقسّمة بوساطة زلازل التاريخ السياسي، مكسوّة بجثث الصراعات الامبريالية والقومية والإقليمية والطبقية، يتأسس ماهو لغوي دائماً على أساس ماهو لغوي- سياسي).
لم نجد في ديوان «بريد العائلة» عمى اجناسي، فقد ضمّ قصائد نثر حافلة بالمعنى، ولم يكن سجين جنسه الادبي، لأن قصائد الديوان اغتنت بالسرد: انتقالاته وحواراته الداخلية والخارجية، وهاضمته المكانية، ثم الوقفات الوصفية، وسيلان الحاضر المستمر الذي يمثل زمن الحاضر السردي، وهناك وجهات النظر الثابتة والجوالة، فلا توجد عزلة اجناسية في «بريد العائلة»، والعمى الاجناسي لم يوجد حتى في فجوات الغيابات البليغة. ان النوسان المستمر ما بين الشعر والسرد قد شمل كل القصائد ووسمها بذلك الطابع المشوّق، بانتظام يشبه انتظام رقاص الساعة، يتضح ذلك، بأجمل ما يكون، في المنطوق القيامي لقصيدة «مناجاة ابن الشهيد في يوم النصر»: (انهض يا أبي/ انهُ يومُ النصر ../ قمْ من قبرِكَ لنحتفلَ معاً/ فقد أحضرتُ لكَ ساقينِ اصطناعيتين/ وذراعاً / وخمسةَ أصابعَ ليدكَ الأخرى ../ وأحضرتُ لكَ خوذةً جميلةً / لكنها أكبرُ من مقاسكَ بكثير/ كي لا ينتبهَ أحدٌ إلى مكانِ الشظيةِ في رأسك ../ يا أبي / أريدكَ أن تحتفلَ معي / فقد زيّنتُ لكَ / قارعةَ الطريقِ التي تتسوّلُ عليها والدتي كل يوم …) ص97.
محنة الغيابات البليغة:
لا أعلم السبب الذي جعل الشاعر فراس طه الصكر يعنون ديوانه بـ «بريد العائلة» لكن الذي أعلمه أنه ضمنه قصائد عدة مهداة الى افراد من عائلته، وهذه القصائد أخذت صفة الرسائل: رسالة أولى الى ولدي، رسالة ثانية الى ولدي. وكذلك الاهداءات: الى أبي وحده لا شريك له، الى ابنتي فاطمة، الى ابنتي مريم، الى ناصر ياسين الصكر. ولأن الرسائل عادة ما تأخذ طابع الخصوصية والسرية، ولا يمكن فتحها وفضّ ختمها الا من قبل المُرسَل اليه، فهي تدخل في خانة الاسرار، فبريد العائلة، هو اسرار العائلة، وعقيدة الصمت المطبق حيال تلك الاسرار هي التي تعمل عليها وتؤطر تلك الاسرار بغلافها القاتم السميك. ولكننا وجدنا العكس، فالشاعر لا يؤمن بعقيدة الصمت المطبق إزاء لحظات شعرية قبض على لونها وسحرها وشذاها وزمنها مرة واحدة وحوّلها الى قصائد نشرها على الملأ ليطلع عليها جموع القرّاء، وبذلك انتفت سرانيتها وخصوصيتها. فبريد العائلة لا يضم اسرار العائلة الخاصة بـ «فراس طه الصكر» فقط، بل هو بريد يحوي أسرار الوطن، فأسرار عائلة الشاعر قد هضمت داخل الأسرار الكبرى للوطن ولم تعد تعني أحداً من وجهة نظر تأريخ الوجود الوطني بوصفه مصيراً يخصّ شعباً بأسره. لذا نجد الشاعر يميز في مجمل قصائد الديوان بين ثلاثة اشكال من الغيابات تأسيساً على أن الغيابات هي دائماً مرتبطة بثلاث لحظات:
1. لحظة الغيابات الشخصية: ونقصد بها الحذوفات التي مورست على القصائد/ الرسائل العائلية وهي حذوفات لا ترتقي الى مرتبة الاخلال بنظام القصيدة بشكل عام. فالشاعر حاول التركيز على «المعلن عنه» ولم يمط اللثام عن «المسكوت عنه» بقدر تعلق الأمر ببث لواعج سنتمنتالية (عاطفية)، وكأنه وضعنا إزاء لوحات تشكيلية تصور طبيعة ساكنة بخلفيات داكنة ليس فيها ما يعكر صفو ماهو معروض ومقرر في الواجهة.
2. لحظة الغيابات السيرية: وتنهمك أساساً بمعالجة الحذوفات التي تعتوري التواصل بين «أنا الشاعر» وبين الافراد والجماعات الاجتماعية الذين مروا بحياته، وذلك من خلال تأكيده على وضع نقاط الحذف، علامات التنقيط (…) اكمالاً لأية جملة لم تكتمل، ونقاط الحذف تعمل هنا كأداة تواصل وافهام حالها حال اللغة المستمرة الجريان، معتمدة على مخيال القارئ كيما يكمل مافهمه: (لم يحفظ من الحرب/ غير سورة الوشاية/ وأدعية الهزائم…) ص11. (بين كل هذا وذاك/ كنت أنا دليلكِ الى الغياب/ وشاهداً على كل هذا الجمال…) ص16 وغيرها الكثير.
3. لحظة الغيابات التحررية: وتقوم على حذوفات الأفعال والاقوال المشوهة المتولدة عن ممارسة القوة، ومن ثم محاولة التحرر منها وتجاوزها الى تأمل ذاتي معبّر.
لنقرأ قصيدة «سبايكر»: (أحبُّ محادثةَ الأيتامِ كثيراً/ إنهم بارعونَ جداً في الرياضيات/ مثلاً:/ يعرفونَ عددَ الشهداءِ/ في المقابرِ الجماعيةِ، / ويعرفونَ/ كم مرةً يهبطُ ملاكُ الموتِ/ في أرضِ المعركة. / كما أنّهم/ يعرفونَ عددَ الرصاصاتِ/ في جثثِ الضحايا. / ويعرفونَ كذلكَ/ أنَّ المسافةَ بينَ المنزلِ وسوقٍ شعبيّ/ سيّارةٌ مفخّخةٌ!!/ وحينما تسألُهُم/ عن حاصلِ ضربِ الرصاصاتِ/ في جثثِ المغدورين/ سيُجيبونَكَ على الفور:/ سبايكــــــــــــر) ص81.
ولنقرأ – أخيراً-ما تضمره قصيدة «أبناؤنا لا يذهبون الى المدارس» من غيابات بليغة حاضرة في تكملة السطور، ومابين السطور، وفي داخل نقاط الحذف المستمرة بالتدفق الى الجهة اليسرى من الورقة، وسنجزئها الى مقاطع عدة حتى يتسنى لنا اكمال غياباتها:
المقطع الأول: (في صباح الحروب/ أبناؤنا لا يذهبون الى المدارس/ إنهم يملؤون الشوارعَ/ فالشوارع ملاذ آمن/ لأحلامهم الخائفة) ص87. والغيابات هي:
1. الولاء مقولة طائفية أما الحقيقة فمقولة قانونية.
2. ان الجبهة الداخلية للوطن شفافة، أما الحدود الدولية فغامضة.
المقطع الثاني: (إنهم يبيعون المناديل/ في مفترقات الضياع.) ص87. والغيابات هي:
1. إن أخطر أشكال اللاتسامح هو لاتسامح الفقراء.
2. إن أية حقيقة في المجتمع المتخلف هي حقيقة غامضة، وغموضها يؤكد أحقيتها في الرسوخ والبقاء.
المقطع الثالث: (في صباح الحروب/ أبناؤنا لا يذهبون الى المدارس/ إنهم يجوعون وحسب…) ص87. والغيابات هي:
1. لقد قضي على حركات التحرر الوطني، واحدة إثر أخرى، وفشل الكفاح المسلح فشلاً ذريعاً عندما فقد الاتجاه وأضاع الهدف، حينما عجز قادته (الأفذاذ) عن قتل الفقر، وأداروا بنادقهم الى قتل الفقراء.
2. الأغنياء والسماسرة وزعماء الطوائف ورجال الدين وعملاء دول الجوار ومعاميل القوى الاستعمارية الكبرى غير عنصريين ولا طائفيين، ولكنهم ينتجون عقائد للعنصرية وللطائفية ويضعون الأسس النظرية لهما، لكن الفقراء ينتجون البراكسيس، وينتجون الممارسات القتالية، وهي أخطر من العقيدة والنظرية.
لقد تأسست كل النصوص الشعرية القديمة والوسيطة والجديدة على معجم فقير وتراكيب بسيطة مبتسرة فاقعة، وذلك لتجنب أدوات التشعير والتفكير المركب والنقدي، وهذا يعني أنه يجب أن نكون مستعدين للتعرف على اشكال أخرى من الابداع والخلق، حتى في الحالة التي تتخذ فيها مظهراً بريئاً، وخطاباً بريئاً كقصائد النثر السهلة الممتنعة. ويجب أن يغدو وعينا حاداً وتفكراتنا ثاقبة ونضوجنا ناجزاً، وأن لا تبقى خطاباتنا بريئة ولا قراءاتنا بسيطة ومتسرعة لأن كل الجهات صارت عدوة لنا، فما علينا الا تسمية الأشياء بمسمياتها وتشخيص العطب. وهذا ما هجس به الشاعر فراس طه الصكر ووجده في المحصلة النهائية.