وضع الصديق الدكتور جودت القزويني كتاباً ضخماً اسماه (أعلام الأدب المنسي في العراق) قبل ما يقرب من عشرين عاماً، أطلعني على بعض مسوداته. وقد عجبت لكثرة ما أحصاه من أسماء، لم أسمع إلا باليسير منها، وذهلت لوفرة ما عدد من شخوص لم أقرأ إلا القليل عنها. ويبدو أنها ذوت مع الأيام، وبهتت بمرور الوقت، رغم ما كانت عليه من تفرد، ونصاعة وبيان. تشهد على ذلك النصوص التي أثبتها لكل واحد منها، بصبر ودأب عظيمين.
وليس جميع هؤلاء من الذين شغلوا بطلب الرزق عن الكتابة، أو الذين نضبت قرائحهم وهم في منتصف الطريق، أو أدركهم الحمام في وقت مبكر. فمنهم من بقي يخوض غمار الأدب حتى أدركته الشيخوخة، ومنهم من أخلص لفنه حتى الرمق الأخير. ولكنهم لم يحوزوا شهرة، ولم ينالوا ذيوعاً. وبعضهم أنتج القليل المبهر، واستغنى عن الكثير المألوف. والبعض الآخر عزف عن الشهرة فلم يسع نحوها، وآثر العزلة وآنس بها.
لقد شهد العراق نهضة غير عادية في القرن العشرين، وأخرج الكثير من أمثال هؤلاء، ومازال يفعل ذلك حتى الآن. ولكنهم لم يحظوا جميعاً بالانتشار، فنسيهم الناس وهم أحياء. وطووا عنهم كشحاً وهم أموات.
ولا ينطبق هذا الوصف على الأدباء، الذين صرفت عنهم الأنظار فحسب. بل يصدق على كثير من محترفي الثقافة، وقادة الرأي، ووجوه الفكر. ومن بقي في الذاكرة لا يتعدى أصابع اليد الواحدة. فمثلما لم يعد هناك من يذكر أحمد الصافي، وعلي الشرقي، وحافظ جميل، ومحمد مهدي البصير، وعبد القادر الناصري، وقيس لفتة مراد، وغيرهم من أدباء القرن الماضي، فإن أحداً لم يعد يذكر فؤاد جميل، وجعفر الخليلي، وأحمد سوسة، ويوسف عبد المسيح ثروت، وجواد علي، ومهدي المخزومي، غيرهم من المؤلفين. كما لم يعد ثمة من يعنى بفن شاكر حسن السعيد، وحافظ الدروبي، وعطا صبري، ونزار ونزيهة سليم، وآخرين من فناني العراق الكبار.
حتى أولئك الذين تبنوا أفكاراً جديدة، وساروا عكس التيار لم يسلموا من النسيان، باستثناء أسماء قليلة كعلي الوردي، الذي مازالت كتبه تباع على الأرصفة في بغداد، وحسن العلوي الذي بدأت العيون تزور عن مؤلفاته في عموم العراق. أما الآخرون الذين آثروا النجاة بأنفسهم من الجلاد، أو وقاية أسرهم من الفاقة، فقد باتوا يعانون من العزلة. وزاد في الطين بلة عزوف الجيل الجديد عن القراءة الجادة، وزهده في المعلومة الموثقة، ورغبته عن كل ما هو نافع وجليل.
وإذا كان لكل زمان رجال فإن رجال هذا العهد لم يبرهنوا بعد على قدرة كافية على البروز أمام الملأ، مثلما فعل أسلافهم من قبل حينما كانت أدوات الثقافة متعسرة، وسبل البناء موصدة، ووسائل الإعلام محدودة. وربما كانت هذه الأسباب ذاتها هي التي أجهزت على كل ذي موهبة وفن وأدب وعلم، وأحلت بدلاً عنه صاحب المال والثراء والجاه والسلطان.
محمد زكي ابراهيم
وادي النسيان
التعليقات مغلقة