هشام أصلان
1
«تبدلت الموضة وانقلبت المعايير، وتغيرت الأسماء، وانسحب كُتّاب كبار إلى متحف التاريخ، فيما ظل هو مكانه، يثير الاهتمام والإعجاب والجدل الصاخب. قاوم الشيخوخة تارة والسلطات تارة أخرى، وكُتّاب التقارير وصُنّاع الطغاة، وسكاكين المتطرفين وكل الصعوبات التي كادت تحول بينه وبين الكتابة تارات وتارات». سطور يقترب بها الكاتب المصري محمد شعير من إنهاء نَصّه الكبير: «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المُحرمة». صدر منذ أيام عن دار العين في القاهرة، وسط احتفاء لافت داخل الأوساط الأدبية والفكرية، ذلك أن كثيراً من المهتمين تابعوا رحلة إنجاز هذا الكتاب وانتظروه. كانت لديهم فكرة عما يقوم به شعير، مع ذلك جاءت النتيجة مُدهشة.
2
قال أحدهم مرة إن الكاتب الحقيقي يصل إلى القارئ، بأجمل مادة، وقد جفف عرقه، حيث سهولة التلقي، وعدم شعور هذا القارئ بلهاث الكاتب، معياراً دالاً. هذه قاعدة معروفة منذ أجيال، نجح في تحقيقها كتاب كثيرون. روائيون وقصاصون وشعراء. غير أن هذا كتاب مختلف.
من الغلاف للغلاف لم تتوقف تساؤلاتي عن كيف استطاع الكاتب تنمية أدوات مشروعه، ثم تنظيم هذه الأدوات. كيف خلق هذه الأدوات من الأساس؟ يقولون إنه يعمل منذ سنوات.
هنا كاتب فكّر في إنجاز كتاب يحتاج إلى كثير من البحث داخل الأرشيف في أجواء مؤسسية لا تساعد على البحث. وبعدما ذهب وجاء في كل الاتجاهات الرسمية وغير الرسمية يجمع مادته، التي أتصورها بدت مرعبة الشكل في صورة أهرامات من الأوراق وأقاصيص الصحف القديمة وعشرات الروابط على المواقع الإلكترونية، بدأ في نسج قصته الخاصة، هي مستحيلة بغير الرجوع إلى كل أقصوصة أكثر من مرة أثناء الكتابة، لمقارنة زوايا النظر المختلفة حول فكرة أو معلومة، خصوصًا أنه اختار تقنية الحكي الأدبي، أو لنقل بارتياح، السرد الروائي، ليأتي الكتاب مشحونًا بمادة أرشيفية وبحثية ثقيلة الوزن عبر صفحات مُسلية وشيقة. هنا ما يشبه رواية تاريخية، ذهب فيها نجيب محفوظ وجاء بطلًا روائيًا، بينما تتحوّل أجواء نشر روايته الجدلية «أولاد حارتنا» إلى سردية تمسح الواقع المصري اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا في لحظة زمنية شديدة الارتباك. لست متأكدًا إن كان مصطلح «الارتباك» يليق بلحظة أو حقبة زمنية. التاريخ المصري الحديث عمومًا شديد الارتباك. لنقل لحظة زمنية مهمة في العلاقة الثلاثية: السلطة السياسية، نظيرتها الدينية، ومجتمع ارتخى رحمه جاهزًا لاستقبال المارة.
3
في «سيرة الرواية المحرمة» ربما تمرّ على وقائع معروفة للقارئ المتابع. سمع بها أو قرأ عنها في إصدارات متوفرة. غير أن الأرشيف العنكبوتي التي اشتغل عليه محمد شعير، وضع هذه الوقائع وسط عدد من زوايا النظر، وتقاطعات بين مصادر ليست منتشرة في ساحات الحكي عن محفوظ وروايته، لذا توفرت أمامك فرصة لمعرفة أكثر وفهم أوضح. وضعها أيضًا في سياق سردي مُمتع.
من هذه الوقائع والحكايات، ما نسجه التاريخ حول ترشيح محفوظ لجائزة نوبل وأجوائه، والمعركة المشهورة التي افتعلها يوسف إدريس زاعمًا أنه كان مرشحًا قويًا، بل وأنه الأحق، عطفًا على ثنائية مزعومة اخترعها البعض على السمع بأكثر من القراءة، متفذلكين بالتنظير لكيف أن الزمن انتصر لمحفوظ بسبب رهبنته، بينما منع المرح إدريس من الإخلاص الكامل للكتابة والعالمية، ووهم قدسية جنون الحياة كسمة أساسية للفنان.
هنا أيضًا يعرف القارئ وهمية حكايات تتحدث عن وضعية محفوظ بين النخبة والمجتمع قبل نوبل، وأنه بات كاتبًا مشهورًا بعدها. لا شك، طبعًا، في تحول حياة من يحصدها كُلّيًا، غير أن ما قدمه شعير يشير إلى أن صاحب «الحرافيش» طاول، قبلها، سقف التحقق الممكن لكاتب في سياق مجتمعه، كان الجميع يتعامل معه باعتباره الأهم والأكبر بين معاصريه:
«في صفحتها العاشرة، بدأت صحيفة الأهرام نشر أول حلقة من رواية نجيب محفوظ الجديدة (أولاد حارتنا)، والتي كانت أعلنت عنها في صفحتها الأولى قبل أسبوع:
اتفقت الأهرام مع نجيب محفوظ كاتب القصة الكبير على أن تنشر له تباعًا قصته الجديدة الطويلة. إن نجيب محفوظ هو الكاتب الذي استطاع أن يصور لنا الحياة المصرية تصوير فنان مقتدر ومبدع، ولذلك فإن قصصه كانت حدثًا أدبيًا بارزًا في تاريخ النهضة الفكرية في السنوات الأخيرة. ولقد وقعت الأهرام مع نجيب محفوظ عقدًا يصبح للأهرام بمقتضاه حق النشر الصحفي لقصته الجديدة مقابل ألف جنيه. والأهرام لا تذكر هذا الرقم، وهو أكبر رقم دفع في الصحافة العربية لقصة واحدة، تفاخرًا أو ادعاءً، وإنما ليسجل بدء عهد جديد في تقدير الإنتاج الأدبي».
4
في تبعات ندوة أقامتها دار العين لإطلاق الكتاب، لم أُحب انسحاب المهتمين في جدل وراء سطر تقليدي وعابر رددته الدكتورة سيزا قاسم: «نجيب محفوظ جبان». جملة كليشيهة قالها كثيرون بسبب الجانب غير الصدامي في شخصية محفوظ، وحكاية أثبت الزمن مستوى سطحيتها، ضمن حكايات كثيرة حول الروائي الوحيد الذي تعرض للاغتيال بسبب جرأة كتابته! جانب الأصدقاء صواب النظر عندما انشغلوا عن قيمة ما قيل حول الإصدار الجديد بهذه المسائل البسيطة. وهي مناسبة للتعبير عن انبهار لا يتوقف بموهبة الناقد والمفكر الكبير محمد بدوي في فن المُحاضرة. وفرها الحظ أمامي عدداً من المرات المهمة.
في جلسة جانبية، تحدث أصدقاء عن المفاجأة التي يجهزها محمد شعير في جزأين مقبلين للكتاب، وأن أحدهما سيضم عدداً من مخطوطات نجيب محفوظ. قلت لهم إن أمر المخطوطات يقف في منطقة الخبطة الصحافية الكبيرة، بينما الكتاب الذي نطالعه حاليًا هو «كتابة محمد شعير الخالصة ونَفسه الخاص».
هنا مجهود نادر، ومستوى بحثي من الظلم، رغم فخامته، الوقوف عند عتبته. محفوظ طاقة لا تنفد رغم كل ما كُتب منه وعنه. ألهم شعير واحدًا من أعمال يطلق عليها: «مشروع العمر»، وخدمة حقيقية للمكتبة العربية بتنوع قرائها. لن تنساه وإن كانت «آفة حارتنا النسيان».