يتناول كتاب “الديمقراطية في أميركا” للباحث والخبير شبلي ملّاط، ظاهرة مهمة للغاية على الصعيد العلمي وعلى الصعيد السياسي، ألا وهي تشريح العملية الديمقراطية، وتشريح النظام الديمقراطي، ولعل أفضل طريقة لإنجاز هذا الهدف المهم في عالمنا وفي بلدنا الباحث بلهفة عن انموذجه الديمقراطي أنه يرتكز على دراسة حالة عيانية مهمة وهي حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة.ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب ارتكازه الى واحدة من أهم المرجعيات في الدراسات الديمقراطية أليكسس دي توتكيفل الذي يعدّ أهم المراجع المتاحة لدراسة هذه التجربة.
وكذلك تكمن أهمية الكتاب في أنه يشير الى التحولات الجديدة في العالم الراهن وهي تحولات لابد من وضعها في إطارها التاريخي والإنساني.وهو أيضا يرسم الطريق لمجتمع بلا عنف، ومجتمع يرتكز على التعاون والتفاهم الإقليمي المرتكز على نشر قيم المساواة، ومحاربة الفقر، ونبذ الاستغلال الاقتصادي للشعوب.
كما أنه يتيح للقارئ إدراك إمكانية خلق نظام عالمي واسع من دون أوهام التسلط الإمبريالي أو الدكتاتوريات الأيديلوجية، ويعلي بشكل كبير دور العدالة والقضاء في تنظيم التوازن الاجتماعي وتعزيز القيم الحضارية والانتصار للعدل والحياة.
تنشر “الصباح الجديد” حلقات من هذا الكتاب كإسهام في تعميق الجدل والمعرفة وتوسيع دائرة العلم بالمناهج والمراجع الضرورية للعملية الديمقراطية بنحو عام وفي العراق بنحو خاص.
الحلقة 12
شبلي ملّاط:
فكرة (( المرآه على سطح المريخ)) تستهوي الذهن ، وانها تمثل نجاحا علميا مميزا يجعل الرئيس الذي يقترن باسمه نجاح مثل هذا المشروع متقدم على جون كندي ، وهوه الرئيس الذي يذكر التاريخ اقتران اسمه الحميم بمشروع ابولو .
والمجال المثير الثاني لراسه أميركية رائده يتمثل بالحقل البيولوجي ، وقد طغت الاخبار بمشروع الجينوم في السنين الأخيرة من القرن العشرين ،فيما، انجزت خارطة الفرد الوراثية قبل اشهر من انتهاء الوقت الموضوع لها. اما من كان معنى هذا الاكتشاف مغلقا عليه ، فمن الممكن وضعه في صورة “انتصار للحياة” بما تحمله من وعد بالقضاء على المرض عن طريق اعادة انتاج العلم للخلايا السليمة. فمتى نجح العلم في منع الخلايا من الاختلال او حتى من الهرم ، او حتى من الاندثار سوف تجابه الانسانية ولأول مرة في تاريخها افاق التغلب على الموت وقد بدأت شركة هندسة وراثية في اميركا تطرح “تقنية تهدف الى تخليد الخلايا الاصلية لجعلها دائمة الشباب”.
صحيح ان المبالغة سهلة في الفضاء الاكبر على حد قول باسكال pascal ، وفي الاصغر اللامتناهي ومن الحكمة التروي قبل ان يتحول الحماس طيفا من خيال. فمن السابق لأوانه التنبؤ بالحياة الخالدة وقد يكون سابقا لأوانه الاسترسال المطلق العنان في مشروع وضع الانسان على سطح المريخ. اما مشكلة العلم في علاقته بالقيم فهي طبعا ليست جديدة في التاريخ وكان الرواية الفيلسوف رابلي Rabelais قد نوه في القرن السادس عشر بالمشكلة التي ما تزال قائمة في القرن الحادي والعشرين: “فالعلم بلا ضمير ليس غير دمار للروح”.
ولجميع هذه الاسباب يتضح الدور الرائد للمستشار العلمي للرئيس الاميركي وليس مفيدا في هذا المجال الاكتفاء بالعموميات وتحتاج دقة الموضوع الى دراسة متأنية منظمة لتقييم اخصب مجالات الاكتشافات العلمية الكبرى ولإعادة تقييم الاستشارية العلمية ودورها الحكومي بما فيها المجموعة الاكاديمية التي تعمل متعاونة في مجلس الادارة الاستشاري التابع للرئيس على رسم سياسة الولايات المتحدة العلمية. فمهما كان الامر من حيث الاولويات والتنظيم ، يبقى ان المستشار العلمي للرئيس يضطلع ، مع قاضي القضاة بأسمى المسؤوليات العامة في مستقبل الولايات المتحدة ، وهذا الاقرار يشكل بدوره اشارة مميزة للزعامة المنتظرة في المجال العلمي. فالسؤال عن اسم المستشار العلمي لرئيس الجمهورية سؤال لا يجوز ان يبقى خارج التداول والمألوف في اميركا وباقي العالم. اما ولئن كان ألكسي دي توكفيل قد اخفق في تصوره لتلازم العلم والديمقراطية في اميركا ، الا ان تقدم العلم جزء لا يتجزأ من توسيع الحلقة الديمقراطية فيها. ومن الجائز الا يرى رؤساء اميركا في بداية القرن الحادي والعشرين اكتمالا لغزو الفضاء وانتصار الحياة على الموت ، الا ان اقتران اسم رئيس الولايات المتحدة بأي من هذين الفتحين كاف لتخليده في التاريخ المنظور.
10- في الاسلوب ، والقيم الحضارية الاخرى
في نهاية هذه المقاربة العامة للآفات الاجتماعية الملحة والسبل المتاحة اما الرئيس الاميركي على الساحة الداخلية ، من الملائم التساؤل عم مجمل الحالة الديمقراطية في اميركا بعد مئتي سنة من تقييم الكسب دي توكفل لها .
واذا كان لا بد من الركون الى مزايا المطلوبة من الرئيس ،- الإنسانية والرأفة والتواصل والمسؤولية والعمل الاجتماعي لانها من صميم نجاح الزعيم والمجتمع الذي انتخبه غير ان هذه ((القيم القيادية )) لا تخضع لحساب علمي ، ومن المستحيل تحديد نسبه اي من هذه الخصال رياضيا . الا انه من الممكن معالجتها بطريقه تقريبيه عن طريق لائحة مقارنات تاريخيه تشمل جميع المرشحين على امتداد الولايات الرئاسية الاثنين والاربعين منذ جورج واشنطن ، وتقييم كل من ((الخصال الرئاسية) فيها وفق سلم قياس من عشرة درجات . ويمكن عندئذ التوصل الى قائمه متكاملة مع نتائج وارقام تشمل معدلات ما مجموعه مائه مرشح ورئيس منتخب في تاريخ الجمهورية الأميركية منذ الاستقلال .
لكن مثل هذه المحاولة محتمة الفشل ، ولانتفاء معناها اسباب عديده اولها المعيار المختار (( للقيم الرئاسية )) فما هي ((الأفه )) وما هوه ((التصميم )) في (( زعامة )) قائمه على المبدأ ومن الصعب ايضا تقدير هذه الخصال في التاريخ فهي دائما قابله للتغير .
والمقارنة بين الاشخاص عسيره … لكن السبب الرئيسي لعدم جدوى مثل هذه المقاربة هوه انعدام هدفها : فمن يقيم من ، ومتى ، وكيف ، ولأي سبب ؟ فضلا عن استحاله تقييم اعداد لا نهاية لها من تركيبات ودرجات على جانب واسع من التعقيد . مع هذا كله ، فان صوره الزعامة ثابته في تقييم الديمقراطية والرؤساء الذين انتهزوا وجودهم على صخور جبل رشمور في ولاية داكوتا يتمتعون في التاريخ بزعامة لا شائبه فيها تتميز بالديمومة والاستقرار باختصار فالقضية قضية اسلوب واسلوب الرئيس يمثل حقيقة صعبة الأدراك ومستعصية التقييم رياضيا لكن هذا لا يمنع انها حقيقة ثابتة .
والمرء ليس عاجزا بالتمام عن تقييم صورة الزعامة والبحث في تحسينها ، ان الجهة شخص المرشح نفسه ام لجهة رغبه الجمهور في زعامة ذات شأن ومن المطالب الملحة العودة الى خطاب رئيسي مميز يحل محل الشعرات والمختصرات التي تفرضها ثقاه التلفزيون . فعلى الرئيس ان يعمل خلال الحملة الرئاسية وعلى امتداد ولاية على خطاب خلاق ومقنع يصبو اليه الجمهور بدل تكرار الشعارات المنمقة والفراغة و التركيز على نوعية الخطاب يحث على التخفيف من المناسبات الخطابية العامة التي لا تحصى والى تكريسه جزءا وافرا من الوقت للتفكير بما يستحق التعليق عليه وللتعبير عن كتابه فرديه تصل بأسلوب خاص بدلا من تواريه وراء جيوش الكتاب المأجورين لتدبيج الخطابات الرئاسية . واذا كان من الصعب ان يرقى المتحدث كل يوم الى خطاب الرئيس لينكولن في غتسبورغ الا ان هناك الحاحا في جميع الاوساط على فكر ارفع في الشأن العام ، واداء اعلا في القمه . وليست الكتابة المأجورة في واشنطن وهي دأب الرئاسة واكثر المناصب العامة في العاصمة ، سوى افقار مستشر للروح الديمقراطية النيرة ، وافتقار الى التمثيل الشعبي في شخص الرئيس.
هذا بالنسبة الى الاسلوب . اما في المضمون فيمكن اللجوء تقييم احصائي اكثر دقه في عدد من المجالات . والاحصائيات المتوفرة كثيرا وتحتاج الى ترتيب منهجي مختلف ولا باس من العمل على معايير رياضية وافية لتقديم انجازات الولاة الرئاسية من خلال الاحصائيات المختارة وحتى في مجالات لا تبدو لأول وهلة قابلة للعد الرقمي ، تتوفر الان معايير على جانب كبير من الدقة مثلا في حقل الحريات ، وفي دراسة تفشي الرشوة وشفافية الحكومات وقد خصص البنك جهودا مفيدا في احصاء الرشوة وانعكاسها الاقتصادي وفوائد مكافحتها ، ومن المناسب توسيع الحلقة الإحصائية للدفاع عن قيم حضارية اخرى ، منها البيئة النظيفة والمدن الخالية من الجرائم .
وبالطبع فمثل هذه المقاربات محفوف بصعوبات شتى . ولا يجدي التنبؤ بالمستقبل لدى الادمي وليس القائد في موقع افضل يؤهله لقراءة الغيب ولن يقدر على فك رموز المستقبل مهما كان بصيرا فالأحداث تتسارع على الساحتين الداخلية والدولية وتحتاج ردات فعل يوميه ليس متاحا لاي شخص او جماعة ترقبيها والسيطرة عليها مسبقا .
وليست استحاله استقراء المستقبل هي العائق الوحيد امام البرامج السياسية التي تحاول التحسب للامور علميا وحتى اذا اعتبرنا افتراضا ان الطاقم الرئاسي يتحرك وكان واح وشخص الرئيس فان التمايز ملازم العملية اتخاذ القرار بحسب تشكيل الكونغرس وميزان القوى مع البيت الابيض ، فاذا كانت السلطة الاشتراكية بقيادة المعارضة كما حصل في اغلبيه الولايات الرئاسية في نهاية القرن العشرين فان العوائق والسدود تكون كثيرة في وجه برنامج السلطة التنفيذية .
وهذا الامر محتم بل هو ملازم لفصل السلطات الذي تعمل به الديمقراطية الصحيحة والسلطة القضائية لها ايضا دورها ونمطها الخاص في المسائل الأساسية دستوريا وقد تشكل عائقا او تحويرا مهما لاي برنامج تنفيذي يضلع به الرئيس او يصادق عليه الكونغرس .
وفي النهاية فان افاقا جديدة للديمقراطية في اميركا تقضي يتوسع تبعه السياسيين وتعميقها والجمهور عرضه دائما لبرامج تعتمدها المؤتمرات الوطنية والحملات الرئاسية تتسم بالعمومية وتفتقر الى الدقة فتبقى مطاطه المفاهيم قليلة الجدوى فمن المفترض بهذه البرامج ان تتخطى طابع الخواء والرتابة المهيمن على الساحة العامة وقد تطورت العلوم الاجتماعية الى درجة تسمح للمرشح ان يرسم صورة عن حالة البلاد كما تبدو له وهذا انجاز بحد ذاته لما ينم عن استيعاب للمعلومات المهمة ولما يوفر من قاعدة يمكن للسياسي ان يبني عليها .
وعند ذاك وفقط عند اكتمال اولي لهذا التصور يصبح ممكنا تقديم الخطط في موضوع الاصلاح او التطور ووضع التوقيت والسبل الكفيلة باتمامها من الخطأ اعتبار الشعب غير ابه او غير معني فالابتعاد عن السياسة لدى قسم كبير من الجمهور الامريكي خلال الحملات الانتخابية الوطنية سببه رتابة البرنامج وافتقارها الى الدقة والنزعة المستشرية لدى المرشحين للتطبيل والتومي بالوعود غير المستندة الى الحجج الدامغة والمواطن لا ينتظر الجنة من مرشحه ويعرف حدود القائد لانه يشترك في حياته اليومية بحدود مماثلة والحكمة المتعالية في هذا الوعي المشترك بين القائد والناخب هي من صلب العملية الديمقراطية والتقدم الحضاري مرهون بتقارب الحاكم والمحكوم في المجتمعات المعاصرة .
اخراج الناس من حيرتهم واشمئزازهم من الشؤون الانتخابية عمل هام واعاده فتح الباب السياسي على الملأ يشكل هدفا مثيرا بحد ذاته في الولايات المتحدة لكنه بخلاف 7،5 مليارات مواطن في سائر المعمورة فان دور المواطنين الاميركيين وحظوظهم تتخطى حدود بلادهم بما يحملنا على توجيه البحث الى دور الولايات المتحدة في العالم ، وان تنتقل من توسع الديمقراطية داخل اميركا الى فضائها العالمي. .