الشروط المستحيلة والمرشح المكرود

غرائبية المشهد السياسي لم تتقلص مع كل دورة انتخابية وحسب بل ازدادت واشتدت اغترابا عن الواقع وإمكاناته الفعلية في التغيير والإصلاح، وما النتائج والاحوال التي تمخضت عنها الدورة الرابعة لانتخاب مجلس النواب العراقي، إلا مثالاً فاضحاً على ذلك التدهور المتعاظم والمستمر له ولآفاقه المعتمة. وكما أشرنا مراراً الى ان هذا الواقع هو نتاج طبيعي لحطام الإمكانات وسكراب الزعامات التي خلفتها المرحلة السابقة، وهذا العجز والفشل في النهوض واسترداد عافيتنا كجماعات وأفراد، يعود بالأساس الى ذلك الواقع المثقل بكل أنواع الهزائم المادية والبشرية والقيمية، لذلك فإن الحديث عن نهضة سريعة وامتلاك مشروع واضح وجدي يؤسس لها، يعد نوعاً من الهذيانات أو الطوباويات في أفضل الأحوال، لا سيما وان الصناديق قد أعادت تدوير نفس الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة والمتخلفة، والتي لم تنزل على مضاربنا من كوكب آخر، فهي تمثل حالتنا المزرية التي نشتكي منها ونلعنها ولا نطيق فراقها. وكما هي الدورات السابقة، هرولت الجماعات والفصائل والتيارات والقبائل الى من يحسم لهم أمر التجاذبات والاصطفافات السياسية؛ الى مرجعية النجف لتقدم لهم نصاً، يتشاركون في فك طلاسمه وإشاراته النهائية، وهذا ما حصل تماماً في الموقف من المرشح الذي تريده المرجعية كرئيس للحكومة العراقية المقبلة؛ والذي حددته بالشكل الآتي: “إنها لا تؤيد رئيس الوزراء القادم إذا اختير من السياسيين في السلطة… فإذا اختير وجه جديد يعرف بالكفاءة والنزاهة والشجاعة والحزم، والتزم بالنقاط التي طرحت في خطبة الجمعة (27/7/2018) كان بالإمكان التواصل معه وتقديم النصح له فيما يتعلق بمصالح البلاد…”. وما أن صدر ذلك البيان حتى استقبلته وسائل إعلام القوى المتناهشة على الغنيمة من دون استئناء (كما هو الأمر دائماً) وعدته انتصارا لمشروعها وتطلعاتها ومرشحها المفصل شخصياً على مقاس تلك الشروط. لكن النتيجة النهائية ستحسم لصالح شروط وصفات اخرى تنسجم وما أشرنا اليه من أسلوب حياة وعلاقات ومنافع وقيم مهيمنة على حياة سكان هذا الوطن المنكوب بكل شروط الهزائم والانحطاط. ولكن لو افترضنا جدلاً ان مرشحا ما تتوافر فيه مثل هذه الشروط (الكفاءة والنزاهة والشجاعة والحزم) قد نفذ وبمعجزة الى سنام المسؤولية التنفيذية الاولى في البلد، وجرب حظه في التعاطي مع كل هذه البرك الراكدة والآسنة المحيطة به من كل الجهات، ومن خلال صفاته التي حددتها المرجعية؛ فما المصير الذي سينتهي اليه، وهل ستنفعه حقاً نصائح المرجعية فيما يتعلق بمصالح البلاد والعباد؟!
مثل هذه الهرولات التي تستعرض عشقها والتزامها المطلق بوصايا المرجعية، وحرصها على ايكال القرارات المصيرية في الشأن السياسي والحزبي لها، يجعلني أقارن ذلك بما كان عليه الحال زمن جعفر ابو التمن والرعيل الاول للوطنية العراقية، عندما شرع العراقيون ببناء مشروعهم الوطني والحضاري؛ آنذاك طلبت المرجعية متمثلة بالشيخ كاشف الغطاء من جعفر ابو التمن قيادة الشيعة العراقيين ضمن حزب خاص بهم، فما كان من جعفر، إلا أن رفض ذلك بكل احترام وتهذيب، بوصفه قائدا وطنياً لكل العراقيين من دون تمييز على أساس الرطانة والخرقة والهلوسات. كان قائدا سياسياً بالمعنى الدقيق للكلمة، لا تابعا أو من “أشباه السياسيين” من الذين قذفتهم الصدفة الى سنام السلطات. ما يحصل أمامنا الآن من مؤامرات وصفقات محلية وإقليمية ودولية، ودقلات على أعلى المستويات ومن شتى الكتل والجماعات المتنفذة؛ يدعونا لأن نقترح على المرجعية بالتريث قليلا حفاظاً على مصير ذلك المرشح المكرود..!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة