رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 45
حوارات مع جرجيس فتح الله

س:قرأنا كثيراً بأن الحركة الوطنية وانها كانت ضد النفوذ الانكليزي في البلاد وان القائمين بها هم وطنيون.
يتحدد الحكم على واقعة تاريخية معينة بالظروف الزمانية والمكانية واغراض القائمين بها ودوافعهم اليها لتعطي الصفة الحرية بها والسؤال الذي يرد هنا قبل اي سؤال “الى أي جانب كان يجب أن يقف الشعب العراقي في الحرب العالمية الثانية أمع ابشع الأنظمة التوتاليتارية التي عرفها الجنس البشري ؟ أم مع قوى العالم الحر الذي تمثله ديمقراطيات الغرب والاتحاد السوفياتي ؟
النازية والفاشية لم تبد شرورهما في اثناء الحرب ولم يكن العالم يحتاج الى الانتظار للكشف عن فظائعها بعد نهاية الحرب فقبلها بأربع أو خمس سنوات وقف العالم الحر ذاهلاً مصدوماً عندما ابتلعت الحبشة وقضي على استقلالها ثم علم بالفظائع التي ارتكبتها الجيوش اليابانية التي غزت منشوريا. ثم ابتلاع النمسا النازية وتمزيق جيكو سلوفاكيا والقضاء على جمهورية اسبانيا وفي اوائل الحرب تلك وقبل حركه مايس هذه بأكثر من عام واحد شهد العالم دولاً عصرية ديمقراطية في أوروبا تدوسها الجزمة الحربية النازية لهولندا وبلجيكا والنرويج وبولندا وهنغاريا اكان أولئك القائمون بحركة مايس يفكرون في مستقبل للعراق افضل من الحال الذي آل اليها هذا العدد من البلاد وشعوبها المسترقة ؟وبانحيازهم الى المحور ؟
الموضوع ليس الاخلاص من النفوذ البريطاني كما احب بعضه أن يصور وانما هو موضوع ربط مصير العراق بمستقبل مجهول وارتهانه على نجاح هذه الانظمة الدكتاتورية في حرب عالمية كان (السعيد) مصيباً كل الاصابة في وقفته الحازمة ضد هذه الحركة والعراق يدين له وللساسة الاخرين وللوصي عبدالاله باعتماد القوه للقضاء عليها باقل من الخسائر والحيلولة دون جعل البلاد واحدة من ساحات الحرب العالمية في نظري أن (السعيد) يهذه الظروف بدأ سياسياً بعيد النظر محباً بلاده وشعبه وقد رأينا مصير تلك الدول الصغيرة التي تعاونت مع دول المحور حتى الأخير ولنعد الآن الى اصل الحديث
مشروعه لحل القضية الكردية 1944
س:ميزتم له مواقف ثلاثة في هذه المرحلة ماذا عن الموقف الثالث؟
في نظري وبحكم ظروفه ستجد موقفه وبوصفك كردياً ادعاها الى الفخر والاعجاب والى التسجيل لأنه يتعلق بالقضية الكردستانية العراقية وبالضبط بتلك المجهودات الرائعة التي بذلها للقضاء على عوامل الثورة وقد ذر قرنها في العام 1943بالانتفاضة التي قادها ملا مصطفى البارزاني وكان هو رئيساً للوزراء ذلك الموقف الذي لم يحظ من الكتاب والمؤرخين بأكثر من تنويه عابر لا يكشف قط عن الدور الرئيس والموقف الرائع لهذا السياسي بتفهمه الواضح لعدالة المطالب الكردية ووجاهتها وبشكل فاق به من سبقه أو عقبه من رجال الحكم والسياسة العراقيين حتى يوم 11آذار 1970 حين اضطر الحكم تحت ضغط قوه الثورة الى العودة رأساً للحل الذي اقترح السعيد خطوطه الرئيسة قبلها بأكثر من ربع قرن والامر ليس بمثل هذه البساطة عليك أن تتصور كم كانت مقترحات (نوري) السياسة لحل المعضلة الكردية ستوفر على الشعب العراقي من دماء سفكت واموال هدرت وجهود انفقت هباء وحزازات اولدت في حروب أهلية متواصلة لو أخذ بتلك المقترحات في حينه وبسببه ومن اجله ضحى به وزراؤه القوميون العربيون ألبوا عليه مجلس النواب حتى اضطروه الى الاستقالة ومنذ ذلك الحين بدأت الاشاعات تنال من سمعته واسخفها وأعظمها الإشاعة بأنه من أصل كردي وأنه تزوج من كردية.
كانت مؤامرة قومية عروبية اطيحت به الا انه كان اذكى من أن يتركه تمر مروراً عابراً فحفظها لنا بوثيقة تاريخيه مهمة في كتاب استقالة وأريد أن افصل قليلاً في هذا بعد عودته من كركوك في 1943 والخطاب الذي القاه في نادي الضباط حول تصوره لحل القضية الكردية قدم السعيد مقترحاته في حزيران 1943 لمجلس الوزراء فوقف والعرب منه وهم الأغلبية ضده وهددوا وبالاتفاق مع عبد الاله (لم تبد من معارضة على الاقل )باستقالة جماعية فأرغم نوري على تقديم استقالة ستبقى فريدة من تاريخ كتب الاستقالة المعتادة زاد عدد كلماتها عن لفين وخمسمائة ولولاها لم عرفنا شيئا عن دوره هذا قدمها في 19من نيسان 1944واستغرق أكثر من نصفها استعراض تاريخي للقضية الكردية مبيناً في الختام الضرورة ووجهه نظره في حله بالشكل الذي يضمن حقوق هذا الشعب السياسية والاجتماعية ولايخل بوحده وختمها بهذه الفقرة قال:
“في عالم ملبد ما الذي نحن فيه والى ان تستقر الأوضاع وتنجلي الحقائق وتظهر البواطن يجب على العراق أن يتروى في اداره الاكراد في المناطق الشمالية وخاصه اذا علمنا ان الفوضى ضاربه اطنابها داخل الحدود الايرانية ورؤساء العشائر هم المسيطرون في مناطقهم وان الحكومة الايرانية تجاريهم وتسايرهم وقد بلغني أن تأسست في المناطق الكردية في ايران المتاخمه لتركيا والتي تحت النفوذ الروسي مجلس من الاكراد لتنظيم وادارة شؤونهم واما في داخل تركيا فقد حشد جيش تركي أكثر من المعتاد للسهر على استتباب الأمن والنظام في المناطق الكردية المتاخمه للعراق ولايران وقد قيل ان الاتصالات بين الاكراد على اختلاف طبقاتهم جار في الأيام الأخيرة اكثر من السابق وبشكل يلفت النظر وان هذه الاتصالات تسيره وتنظمها الدول ذات الشأن للوقوف على مجريات الأحوال في المناطق الكردية بأجمعها.
يتضح مما سبق بيانه اننا نمر بظروف غير اعتيادية تحتم على المسؤولين أن يبالغوا في الحيطة والحذر وان يجتنبوا الحوادث التي من شأنها أن تنفح المجال امام الطامعين ليستغلوا هذا الوضع غير الطبيعي طوال مده الحرب وخاصة اذا ماتبينا أن ليس للاكراد العراقيين في العراق هدف يخالف ما يصبو الية باقي أبناء العراق فهم كغيرهم هم يطالبون باصلاح الادارة والعناية بالمعارف والصحة والعمران وغير ذلك في كافة انحاء العراق عاجلاً او اجلاً وذلك لرفع مستوى الشعب وزيادة كفاياته وتنمية مواردة فما زالت هذه اهداف المسؤولين فلا يجب أن نجعل من تأخير الاصلاحات وسيلة للاستغلال تعود علينا بالمتاعب وتكدر صفو العلاقات القائمة بين الاكراد والعب اخوانهم واني حين اطلب عناية خاصه بالمناطق الشمالية والمبادرة والاصلاح ما يمكن إصلاحه قبل غيرة لا اقصد من وراء ذلك اصلاح المنطقة الشمالية على حساب المناطق الأخرى وانما هو ترجيج تفتضيه الظروف الاستثنائية الحاضرة على اننا يجب أن ننظر الى العراق كوحده شاملة ونقوم باصلاح شامل ايضاً.
وتثبت محاضرة تلك الجلسة العاصفة التي قدم (السعيد)مقترحاته بخصوص الإدارة الذاتية للمناطق الكردية على ضوء التعهد الدولي الذي قدمه العراق في1932 لعصبة الامم كشرط دستوري لاستقلاله والغاء الانتداب وقبوله عضوا في العصبة. اتيت الى اثبات النص لهذه الاستقالة والتعليق عليها في في فصل خاص من كتابي العراق في عهد قاسم (ج2 مطبوع في السويد 1989) الا ان المخطط الاداري الذي تصوره (السعيد) الضامن لتمتع كردستان العراقية بلون واضح المعالم من الادارة الذاتية …. تجده في الجزء الاول من كتاب “مسعود البارزاني” الموسوم “البرزاني والحركة التحررية” (ط1997).
ما اظن (السعيد) كان سعيدا عندما نشبت ثورة العام 1945 الكردية وهو خارج الحكم ثم عندما تصدت لسحقها بالقوة وزارة حمدي الباججي وقد سميت ايضا بالوزارة القومية بسبب من هذا. مثلما سميت وزارة الكيلاني قبلها في 1933 بالوزارة القومية لمعالجتها الشكوى الاشورية بالمذابح الجماعية.
ولا يداخلني شك في ان هذا الوحدة التي ارادها السعيد للشعبين العربي والكردي ظل اثرها يمور في ضميره عندما قام بهندسة (الاتحاد الهاشمي) ذلك الاتحاد الكونفدرالذي تم بين العراق والاردن في اذار 1958. فقد اصر على وضع دستور الاتحاد على ان تستبقي كل دولة علمها الخاص بها مثبتا ذلك في مادة خاصة منه. وعندما سئل عن السبب اجاب: “في العلم العراقي نجمتان نجمة ترمز الى القومية العربية ونجمة ترمز الى القومية الكردية”.
س: ما ذكرتم قد يبدو من قبيل المفاجأة للقراء حول نوري سعيد. ان لم يكن قد سبقكم اليه من كتب عنه ، لا سيما الكتاب الذي نوهتم به.
كلا . انك لا تجد في كتاب صاحبة الماجستير –رغم جودة فيه وحسن تأليف- شيئا مما ذكرته. ويحزنني هنا ان لا يجد الاستاذ المشرف والمراجع ضرورة للتنبيه على ضرورة تغطية موقف السعيد من احداث 1943-1945 في كردستان ولا عن اسباب استقالته. وهو موقف فيه غرابة فالمؤلفة كردية والاستاذ المراجع كردي. وما ورد في هذا الصدد مجرد تنويه بقليل من الفقرات والصفحات عن التدابير والاجراءات الادارية المتخذة منقولة عن مراجع معتمدة رائجة. انك لا تجد شيئا مما ذكرته هنا ليس بوسعي المضي في التعليق اكثر من هذا ، فالكلمات تعصيني وتبقى عالقة في حلقي . هكذا عود كتاب العراق في التاريخ او السياسة على السباحة في الحدود التي ترسمها الحكومات حيث يعيشون ويؤمنون رزقهم. وانا لا اريد الانتقاص من سمعة كاتب او استاذ ولا يعرف ما يكابده القلم في ظل نظام دكتاتوري الا من جرب.
واضيف الى هذا ان كتابي (اللورد بيردوود) و (والدمار كلمان) عن (السعيد) لا يتطرقان الى هذه النقطة بالشكل الذي عرضته. اذ لم تكن القضية الكردية من ضمن منهاجيهما في الكتابة.

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة