يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 43
حوارات مع جرجيس فتح الله
س: بافتراض هذه الازدواجية اليس من المحتمل ان تكون احداها قد زينت له المقاومة حتى النفس الأخير والأخرى حثه على الاستسلام؟
مما نقل عن الساعات الأخيرة لمقاومته في وزارة الدفاع وما جرى خلالها من مفاوضات استنادا الى عدة روايات ومصادر قد وجدتها كلها تتفق في نقطة واحدة وهو اهتمامه بالمحافظة على حياته فحسب وبأمل قوي جدا بان اسريه لن يهدروا دمه وهو ايمان غريب جدا يخرج عن كل معقول عند موازنة الظروف والاعتبارات اما في جانب منه فضل الاستسلام على الانتحار وزين له التشبث باضعف الامل فيصعب تحديده عند من لا يكون قريبا منه ساعتئذ وكل ما يمكنني قوله في هذا الصدد ان تلك الازدواجية التي جرت الويل على البلاد كانت تزداد وضوح فيه باطراد وتفاقم حتى بدأ الدكتاتور بين هاتين الشخصيتين عاجزا عن ضبطها او اخفائها بما فيه الكفاية وسأضرب لك هذا المثل ولعله يكفي لاقناعك بوجهة نظري في 31 ما اذار 1961 القى بيانا اعلن فيه تأجيل تنفيذ حكم الإعدام بحق الجماعة التي ادينت بمحاولة اغتياله وقد سمعته الملايين مثلي ونشرته الصحف المحلية كلها في اليوم التالي وهذا ما قاله نصا وارجو الانتباه بدقة:
” انني لا حظت قد صدر في هذا اليوم امر بتنفيذ حكم الاعداد حتى الموت في الساعة الرابعة من صباح هذا اليوم أي بعد ساعتين وربع تقريبا ساعتين وخمسة عشر دقيقة وانني أقول واذا جاء اجلهم لا يتأخرون
(كذا) ساعة ولايتقدمون (كذا) أنا أعطف على جميع ابناء الشعب وجدت ان هذا اليوم هو أخر يوم من ايام العيد وهذا اليوم هو اليوم الذي يلي العيد وهو يوم الخميس وهذا اليوم هو ليلة الجمعة والايام لدينا مقدسه ولذلك قررت في هذه اللحظة أن أأتمر بأمر الباري عز وجل واني قررت تأجيل تنفيذ حكم الاعدام حتى اشعار آخر”
تتبين من العبارة الاولى استحكامه صيغة الغائب المفرد من الماضي لفعل (صدر) اعني ان الأمر بالتنفيذ أصدره شخص غير (قاسم) وهذا هو الشخص رقم واحد الذي كان كما رأينا يميل عادة الى الشده والحزم والقسوة أحياناً ثم لايلبث الشخص رقم اثنان العطوف الرحيم يبدو باستخدامه الضمير المتكلم لفعل (قررت) والنكته أن كلا الامرين صدرا منه بتوقيعه ليبدو قاسم به ذلك الانسان الغفور الرحيم الذي اوقف عملية شائنه اقدم عليها ذلك الانسان الاخر القاسي الذي يستطيع بتوقيع صغير واحد ارسال أي قدر يريد من الارواح الى الابدية
هذا هو (قاسم) الذي أراه بمنظاري
معركته في كوردستان
س:اود قبل انتقالي الى الحديث عن نوري السعيد- وهو محور هذه الحلقة –أن اعود بكم برهة الى الحوار السابق الذي خصص لعبد الكريم قاسم فقد سأل بعض القراء جلاء غموض فقرة وردت فيه عرضاً حول مشاركته في المعارك التي خاضها الجيش العراقي في كردستان في أثناء ثورة العام 1945 تتعلق بحادث معين فاقتضابها حمل بعضهم على الاستفسار وطلب المزيد وسيكون من المفيد أن نتزود ببعض التفاصيل عنها.
القى علي بعض القراء الاكارم والاصدقاء السؤال عينه ورغبوا في تفصيل للحكاية مما أذكر أن أبناء عمومتي وهو الدكتور (عبد الباقي سليمان) الذي خدم عدة سنوات في الجيش وارتبط بصلات زمالة مع كثير من ضباطه استعرض معي في اولى الايام التي اعقبت ثورة تموز (وبناء على سؤالي) أسماء الضباط الذين دفعتهم الثورة الى مراكز المسؤولية ممن لم يكن لي سابق معرفة بهم أيام خدمتي انا وفي مقدمتهم عبد الكريم قاسم بطبيعة الحال فروى لي هذا : قال انه ((اي قريبي) كان آمر أو طبيباً أول لوحده الميدان الطبية الملحقة باللواء الثالث بأمرة العقيد الركن حسيب الربيعي وهو احد لواءين جردتهما السلطة بمواجهة الثورة البارزانية في عام 1945 ومقره في شقلاوه وكان عبد الكريم قاسم يشغل منصب مقدم اللواء وبرتبة رائد ركن يرى في اغلب الاحيان وهو بصحبه أحد رؤساء الجيش واسمه (اسعد شيتنه) وانه كان يتنسم منه اخباراً خاصة تتعلق بتحركات (العصاة) وانه افاد منه عمليه جريئة قام بها واحتل جبل نواخين عندما اكد له (شيتنه) هذا أن ملا مصطفى سحب رباياه من ذلك الجبل والقصة برمتها والتي اشتهرت في دوائر الجيش وباتت موضع تندر وربما مدار حسد من بعضهم عي ان منصب مقدم اللواء كان منصباً ادارياً لايملك صاحبه وحده قتالية فجاء قاسم ليلاً الى آمره وبموافقته آمر هذا جمع بعض جنود الشغل والطباخين وخدم المقر وقادهم لتسلق الجبل واحتلاله وان حركته هذه خلقت نفره بيت آمره وبين آمر اللواء الرابع العقيد الركن رفيق عارف (رئيس اركان الجيش حتى الرابع عشر من تموز ) الذي كان هذا المرتفع المؤدي الى فتح طريق ميركه سور ضمن واجبات هذا الأخير وان قاسماً بعمله هذا خلق مشكلة كبيرة لنفسه كانت ستؤدي الى مضاعفات لولا التزام آمر له
هذا هو مجمل الحكاية كما سمعتها وقد أسرعت الى تسجيلها لكنني لم اهتم بها كثيراً رغم ثقتي التامة بصدق قريبي وبعده عن الخيال أو اختراع الروايات ولم اعمد الى الاستشهاد بها اي في اية مناسبة لانها منفردة لا سند تواتر لها ثم مرت سنوات تزيد عن ثلاثين لأتفاجأ بها مفصله مع ذيول لها ونصوص برقيات عنها في كتاب (موسوعة 14 تموز) لمؤلفه العميد (خليل ابراهيم حسين) الذي عرف بين اقرانه بلقب (خليل رويتر) ربما لشدة شغفه بجمع الوثائق وتدوين المعلومات بحكم وظيفته في الاستخبارات وتلك هي قصه (قاسم) ومأثرته في الحرب الأهلية الكردية للعام 1945 وأخيراً عليك ان تعلم بأن ماتحدثت به عن هن وفي الحلقة السابقة لايتضمن حكماً عاماً على اسلوب معالجته السياسية لمشكلات العراق الخارجية والداخلية وهو مما لا يتسع له مجال محدود كهذا الحوار
س:قد يكون للقراء فائدة لو اجملتم رأيكم باختصار وايجاز
مع ماذكرت احل (قاسم) توازناً يحمد عليه بين الشرق والغرب وأبى بعناد واصرار أن يزج العراق في اتون الحرب الباردة المستعر طوال فترة حكمه رغم الضغوط الشديدة من القوميين واليسار وتلك مأثرة لم يقدرها مؤرخوه ومؤرخو عهده حق التقدير ولم يولوها العناية الحرية بها يتناولونها بالتحليل وربما عاد هذا التوازن لحد ما الى تلك المنازعة الازدواجية في طبعه
اما على الصعيد الداخلي فقد منيت سياسته بإخفاق وسجلت له الاخطاء التي تسجل لأي دكتاتور أو حاكم مستبد مطيع لحوافز انية وانعكاسات خاصه بحلول مفاجئة عاطفية غير مدروسة لايتم التوصل اليها بتأن وترو وكثيراً ما كان يتبين بعد قليل خطأه فيها وبمحاولة اصلاح هذا الخطأ تراه يرتكب خطأ آخر وكان يحس في احيان كثيرة بهذا العجز الفكري فيحاول خداع نفسه والاخرين بالتأكيد في مناسبة أو في غير مناسبة بأنه يخطط ويدرس مسبقاً قبل أن يتخذ قراراً وهناك دلائل لا تحصى على ما أقول لا يتسع المقام لأثبات بعضها وما على القارئ الا أن يعود بالذاكرة الى لحظاته الأخيرة فقد تبين انه لم يكن قط متهيئا لانقلاب ولا مخططاً لاحتمال قيام انقلاب نظير لانقلابه حين سبق له قبل اسبوعين فقط أن ظهر على شاشة التلفزيون ليطمئن الشعب العراقي بأن نظامه ثابت اكيد لاتقوى عليه مؤامرة “اننا قسمنا بغداد الى قطاعات عسكرية متأهبة في اي لحظه للقضاء على ايه حركة تنال من الحرية الشعب !!”
وجهل قاسم بطبائع الشعب العراقي (على الاقل) وبشكل يرثى له فرأى أن يحكمه ويتولى مقدراته بعقلية آمر فوج مشاة تألف من جنود مستجدين لا عهد لهم بالنظم العسكرية الصارمة ومن مختلف المشارب والاطوار والنزاعات والطوائف والجنسيات وبثقة العسكري والمتمرس القادر على جعل هذا الخليط بزمن قصير وحدة متجانسة لا تعصي لقائدها امراً وتطيع أي ايعاز يصدر منه
من ناحية اخرى انا لا أستطيع أن أغزو (لقاسم) سوء نيه مثلما لا يسعني قط الشك في نزاهته وتعففه وزهده بمتاع الدنيا ميزته عن بقيه الحكام الذين عقبوه لكن أي دخل لهذه الصفات في البراعة والدهاء والحنكة السياسية؟
كان شيئاً طبيعياً أن يتحلى زعماء القوم والحكام والساسة بمثل هذه الصفات في بلاد اخرى فلا تعد فيهم ميزة عادة او فضيلة الا انها مع الاسف الشديد ستبقى ظاهرة غير طبيعية في معظم حكام وساسة بلدان الشرق الأوسط وقد جعل بعضهم ثروات البلاد وخزينة الدولة ملكاً جلالاً لهم يغترفون منها ما يشاؤون دون محاسب أو رقيب بمختصر القول كان الدكتاتور (قاسم ) بالمقارنة وباستعراض سير جاء يعده افضلهم جميعاً وارحمهم بالناس.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012