الديمقراطية في أميركا

يتناول كتاب “الديمقراطية في أميركا” للباحث والخبير شبلي ملّاط، ظاهرة مهمة للغاية على الصعيد العلمي وعلى الصعيد السياسي، ألا وهي تشريح العملية الديمقراطية، وتشريح النظام الديمقراطي، ولعل أفضل طريقة لإنجاز هذا الهدف المهم في عالمنا وفي بلدنا الباحث بلهفة عن انموذجه الديمقراطي أنه يرتكز على دراسة حالة عيانية مهمة وهي حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة.ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب ارتكازه الى واحدة من أهم المرجعيات في الدراسات الديمقراطية أليكسس دي توتكيفل الذي يعدّ أهم المراجع المتاحة لدراسة هذه التجربة.
وكذلك تكمن أهمية الكتاب في أنه يشير الى التحولات الجديدة في العالم الراهن وهي تحولات لابد من وضعها في إطارها التاريخي والإنساني.وهو أيضا يرسم الطريق لمجتمع بلا عنف، ومجتمع يرتكز على التعاون والتفاهم الإقليمي المرتكز على نشر قيم المساواة، ومحاربة الفقر، ونبذ الاستغلال الاقتصادي للشعوب.
كما أنه يتيح للقارئ إدراك إمكانية خلق نظام عالمي واسع من دون أوهام التسلط الإمبريالي أو الدكتاتوريات الأيديلوجية، ويعلي بشكل كبير دور العدالة والقضاء في تنظيم التوازن الاجتماعي وتعزيز القيم الحضارية والانتصار للعدل والحياة.
تنشر “الصباح الجديد” حلقات من هذا الكتاب كإسهام في تعميق الجدل والمعرفة وتوسيع دائرة العلم بالمناهج والمراجع الضرورية للعملية الديمقراطية بنحو عام وفي العراق بنحو خاص.
الحلقة 10
شبلي ملّاط:

8. العلم والخيارات الصعبة
في قضية الاجهاض
لقد طغت معضلة أخلاقية كبيرة على الساحة العامة في أميركا منذ أن كرست المحكمة العليا حق المرأة في وضع حد لحبلها في القرار الشهير رو ضد ويد Roe v. Wade الصادر سنة 1973. وشأنه شأن مواضيع الخلاف الكبيرة الشائكة ، فإن الاجهاض موضوع نزاع يأخذ مجراه بداية من العنوان الذي يختاره كل من الطرفين ليشير اليه .فمن جهة المحافظين يقف أشخاص يرون أنفسهم ( حماه الحياة ) pro-lifers ، يجاهرون برفضهم ( قتل روح حية بريئة ) يمثلها الجنين . وفي مواجهتهم يقف ( حماة الخيار) pro-choicer الليبراليون ، يدعون أنهم أبطال ( حق المرأة على جسدها) ، بما يحمل هذا الحق من الاستعانة بالطب لانهاء حبل غير مرغوب فيه. فبالنسبة ( لحماة الحياة ) ، يشكل الاجهاض جريمة قتل ضحيتها أنسان حي يرزق .وبالنسبة (لحماة الخيار) ، فإن منع الدولة المرأة من إسقاط حبلها يعني أن الدولة تتدخل في حرية المرأة الاساسية وفي خيارها في أن تكون أماً.
ولم يهدأ الصخب منذ ذاك الحين ، وقد سجل النقاش مواقف مميزة لانصار الطرفين . فحتى بالنسبة لبعض (الليبراليين) وفي غياب أساس لتفسير محدد في الدستور أو تفصيل كاف بهذا الخصوص ، أخطأت المحكمة عندما تدخلت في قضية كان من الافضل تركها للاغلبية المنتخبة في كل ولاية على حدة، أو كما جاء في ملاحظات شهيرة عن ( التهويل بخطر الذئب ) ، اعتبرت المحكمة ( أن التحديد نفسه هو بمثابة المنطق )
The court mistook its definition for a syllogism لما أقرت بمحورية مسألة (أمكانية العيش ) وحددتها بالنقطة الفاصلة ( التي يمكن للجنين أن يعيش عندها خارج الرحم ) . وبهذا التاريخ الفاصل ، حددته المحكمة بثلاث أشهر كحد أقصى لتدخل الحكومة دستورياً في قرار المرأة أنهاء حبلها بمساعدة الطبيب ، أي بتجريم الاجهاض ، وضعت المحكمة نفسها امام حجة انسيابية غير وافية في قضية بمثل هذه الاهمية الاخلاقية والابعاد الاجتماعية المصيرية التي تنحدر منها في المجتمع الاميركي المعاصر .
ولقد تعمقت المعضلة بما جاء به الوقت من أسئلة صعبة على طرفي نقيض :فالليبراليون لا يمكنهم إنكار التقدم الطبي الذي يردم الهوة يوماً تلو اليوم بين الحبل وإمكانية عيش الجنين في الانابيب وغيرها من التقنيات المستحدثة .والعدل المطلق مستحيل طالما أن التغيير مع الزمن وارد كلماً جعل العلم إمكان عيش الجنين أقرب الى الحبل . فمنذ خمسين عاماً كان الطفل الجنيني معرضاً للموت المحتم . اما الان فالطفل المولود بعد أربعة أو خمسة أشهر من الحبل يتمتع بفرص العيش الطبيعي مثله مثل الطفل المولود بعد أكتمال تكوينه في الرحم خلال تسعه أشهر . واذا كانت الانجازات العلمية في هذا المجال أمراً عظيماً ، غير أن معضلة الفاصل الزمني الذي اقرته المحكمة العليا مبداً دستورياً راسخاً تتعمق وتتعقد عند كل أكتشاف جديد ، وقد جعل العلم من المبدأ الذي وضعته المحكمة مطلقاً للاجهاض مبداً غير مقنع في ظل الاكتشافات التقنية المتتالية .
في المقابل لابد من التذكير أن قليلين في التيار الجمهوري المحافظ من الذين يرفضون الاجهاض في المبدأ مستعدون للمطالبة بتجريم بيع وأستعمال الوسائل الصناعية المعتمدة لمنع الحمل . واذا كانت الحبوب المانعة للحمل تمثل خطيئة جسيمة في الاوساط الدينية ، فهذا لا يحمل هذه الاخيرة على المطالبة بتدخل الحكومة لمنع بيعها . وحتى بالنسبة للاشخاص الملتزمين بشدة بعقيدتهم الكاثوليكية وبامتثالهم للرعاية الفاتيكانية ، تدخل الوسائل المانعة للحمل في حيز الخصوصية المطلقة خارج التدخل الحكومي في استعمالها أو حرية بيعها بالنسبة الى المواطنة الفرد. وفي هذه النظرة الى التضارب بين عقائد عميقة وممارسات اجتماعية مغايرة لها، من الصعب التواصل الى العدل المطلق ، وقد تخطى المجتمع الفرائض الدينية الطارمة في اكثر من مجال ، قد يكون من أوضح الامثال على ذلك تجاهله غضب الله ضد ممارسات أونان الجنسية في العهد القديم .والعلم نفسه فتح نوافذ جديدة على هذه القضية الاساسية ، هي من صلب الخصوصية التي تتناول الابعاد الاخلاقية في حياتنا العامة.
ففي المقام الاول ، لقد طاول الصراع بين الطبيعية والعلم موضوع الاجهاض من جوانب غير مرتقبة . فقد أدى التفشي الكارثي لمرض الايدز الى حملات واسعة لاستعمال الواقي والادوية المعطلة للسائل المنوي لحماية الرجال والنساء على السواء، والتخفيف من أخطار عدوى الوباء الخبيث .وصحة هذه الحملات ثابتة للملأ لا جدل فيها ، حتى في توزيعها الواسع والمجاني للواقي كتدبير فعال ضد انتشار الايدز والامراض الجنسية الاخرى ، فلا تواجه هذه الحملات اي رد فعل يذكر على المستوى الاخلاقي او السياسي في ساحة الرأي العام الاميركي.
وأدى تقدم الطب العلمي الى إعادة رسم خارطة الجدل العام . فبعد أكتشاف حبة اليوم التالي للحمل day after pill وحبة المايفبرستونmifepristone المعروفة ب – RU- 486 ، والتي أتت الى الولايات المتحدة من فرنسا ، فإن انهاء الحمل غدا في متناول المرأة بالسهولة ذاتها التي صارت عليه الحبوب المعهودة والوسائل الوقائية الاخرى، ولا أحد يحاول جعل توزيع هذه الحبوب المانعة للحبل انتهاكاً للقانون. فمهما كان الجدل اللاهوتي حول موانع الحمل ، فإن هذا الجدل باق خارج المجال القانوني التجريمي ولا احد يقترح إدراج استعمالها في عداد الجنايات المعاقب عليها بالغرامة أو الحبس .
ومع حية اليوم التالي او RU- 486 ، أصبح أنهاء الحمل عملية سهلة جدا بالنسبة للمرأة من الناحية الطبية . فالتقنية المتوفرة للنساء لاختبار الحبل pregnancy test تجعل المرأة قادرة على أنهائه بسهولة ، إن عن طريق حبة اليوم التالي أو عن طريق اللجوء الى RU- 486 ومشتقاتها الاميركية. وقد ضاقت الفترة الزمنية قبل أن يتحول الاجهاض من عملية جراحية يقوم بها الطبيب الى مسألة شخصية تتمكن منها المرأة لوحدها، مما يجعل إمكانية تدخل الدولة لتحريم هذه الوسائل شبة مستحيلة في المستقبل المنظور . أما الذين لا يزالون يحاربون هذه الحبوب ، فصار رفضهم يزداد وهناً وعجزاً فيما تتحول صورة هذا الرفض كل يوم الى ما يشبه المحاولات البائسة لرفض بيع الادوية المشتملة على مواد سامة ، أو المخدرات التي تباع بالصيدلية بناء على وصفة يضعها الطبيب حسب الاصول .
ومع تقدم العلم ، يتحول الاجهاض قانونياً الى ( سخافة مميزة ) من حيث التطبيق . فالحد الفاصل بين خيار المرأة أستعمال مانع للحمل ، وأيقاف الحبل في اليوم التالي والاجهاض بعد أيام أو أسابيع عن طريق RU- 486 ، هذا الحد أصبح غامضاً مع تقدم العلم ، فيما أنصهر الحمل ومنع الحمل والاجهاض في بوتقة لاهوتية وأخلاقية وقانونية مشتركة عملياً.
هذا لا ينهي الجدل ، ولكنه يغير أطره . فبعد ثلاثة عقود من صدور قرار Roe v.Wade ، تجعل حبة اليوم التالي وال RU- 486 الحق الدستوري في أنهاء الحمل حقاً يكتنفه الضباب ، فيما غدت المعركة تجريم الاجهاض غوغائية وخيالية ، الا أذا نجح ( حماة الحياة) في التظاهر أمام كل صيدلية وعيادة ، أو حتى أمام ( الغرف الزوجية ) الشهيرة ، كما يتظاهرون اليوم أمام مستوصفات الاجهاض . ونظراً لهذه الحقيقة البسيطة التي فرضها التقدم العلمي ، انتقلت الحاجة الى سياسية حكيمة وموزونة ومنورة لابد من أن تدعم الحق في أستعمال حبة اليوم التالي والـ RU- 486
(mifepristone) للاجهاض .هذا يعني عملياً أن نجاح السياسة المرسومة في هذا الحقل هي تلك التي تؤدي الى تراجع نسبة الاجهاض الجراحي بشكل ملموس ، تجاوباً وتفاعلاً مع حملات عامة تجعل النساء الحوامل اللواتي لا يشأن متابعة الطريق الى الامومة قادرات على تجاهل تواريخ قرار Roe v.Wade الاستنسابية.
وطالما أن العدو تحول الى سراباً ، قد يغلب الظن أن المشكلة ماضية الى الزوال . هذا الاستنتاج ليس صحيحاً ، لان موقفاً أخلاقياً لا يزال ضرورياً حتى اذا صار الاجهاض أصعب تجريماً في القانون ، وقد جعلة الطب أقرب الى الانتحار من حيث ان الانتحار ، كان ولا يزال ، قراراً أنسانياً مربكاً ومؤسفاً ومستهجناً ، لكنه فعل غير قابل للتجريم قانونياً . وهذا مايحمل تناول الارباك الاخلاقي الملازم للاجهاض على الانتقال الى مقاربة وقائية ترتسم في اطار مختلف تماماً ، فتحاول استباق الامور بدلاً من معالجتها بعد حدوثها.
كيف يمكن التعاطي مع التراث الذي خلفه قرار Roe v.Wade في ظل التطورات الطبية الجذرية ؟ سيبقى الجواب شائكاً ، لكن الحقائق الطبية الجديدة نقلت الجدل الى آفاق مختلفة .فالعلم يخدم الحياة ويصون الحق فيها ، لذلك تجدر متابعة التركيز في التعاطي مع قضية الاجهاض على مايجعل أيه عملية لانهاء الحمل عملية غير طبيعية ، مربكة ومؤسفة . فالحياة وأنهاء الحياة من القضايا الهامة التي لا يمكن تجاهلها بحجة تغير الاحوال العلمية ، ذلك أن الاخلاق لا يتضاءل دورها أمام التقدم العلمي بل هي تنمو وتترسخ في ضوئه .وبناء على ذلك ، على الانسانية أن تثبت أعتبارها الجنين روحاً ، فعلية أم ممكنة ، فتعتبره طفلاً قابلاً للاعتبار الشامل والكامل كإنسان حي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة