حكومة وطنية بمواصفات مختلفة:
مصطفى حبيب
يقف العراق اليوم أمام مفترق تاريخي، إذ أنجزت البلاد انتخابات صعبة، وانطلق آلاف المتظاهرين نحو المباني الحكومية طلبا للخدمات، في حين يعيش العراقيون حالة نادرة من الوحدة الوطنية، وعلى السياسيين اغتنام الفرصة لبناء بلادهم.
صرخ متظاهر كبير في السن بأعلى صوته أمام الكاميرا خلال الاحتجاجات التي عمت مدن جنوب ووسط البلاد، قائلا «لم تعد المسألة بشأن الكهرباء، الماء، او الصحة، وانما مسألة وطن، أعيدوا لي وطني، فليذهب النفط والاموال الى الجحيم، ولكن أعيدوا لي العراق» هي واحدة من المشاهد العاطفية هذه الايام وتعكس ما يشعر به جميع العراقيين.
العراق أمام تحديات صعبة، فالبلاد ما زالت تداوي جروح المعارك ضد المتطرفين عبر بلدات مدمرة، وسكان مشردين، واقتصاد متعثر زراعيا، وصناعيا، وازمة جفاف وسوء إدارة، فيما تشهد المدن العراقية تظاهرات متذمرة على اوضاع البلاد. ولكن هذه التحديات قد تكون فرصة تاريخية امام السياسيين العراقيين لإصلاح الاوضاع، خصوصا وان دولتين جارتين وهما تركيا وايران باتتا مشغولتين في مشكلاتهما الداخلية.
وللمرة الأولى منذ سنوات يعيش العراقيون حالة نادرة من الوحدة الوطنية بعد الانتصار على تنظيم «داعش»، فالنقاشات الطائفية والشتائم بين السنة والشيعة لا تلقى صدى هذه الايام، وليس غريبا ان تقرأ عبارات الود والاحترام يتبادلها سكان الانبار، والبصرة، والموصل، وذي قار، وبغداد، واقليم كردستان، والتظاهرات الجارية كشفت عن تنامي وعي العراقيين مشخصين المشكلة في أنها أزمة سياسيين لا مواطنين.
السياسيون العراقيون لديهم فرصة لاغتنام لهذه التطورات قبل فوات الأوان، فالاحتجاجات الكبيرة مقبلة، وستكون اكبر، وقد تؤدي إلى الفوضى كما قال زعيم السلطة الدينية الشيعية في النجف علي السيستاني، خلال تحذيره للأحزاب العراقية الاسبوع الماضي، وعلى الأحزاب الحاكمة إدراك ذلك واتخاذ قرارات جديدة، جريئة، وغير مألوفة لإنقاذ البلاد.
يقول برهان المعموري عضو تحالف «سائرون» الفائز بالمرتبة الاولى في الانتخابات، لـ»نقاش» ان «بلادنا تمر في مرحلة تاريخية، وعلى جميع القوى السياسية تصحيح علاقتها مع المواطنين والاستجابة لمطالبهم واخذ البلاد الى الأمام».
منذ انتهاء الانتخابات التشريعية تعيش الأحزاب العراقية حالة من القلق، وللمرة الاولى تتفاوض لتشكيل الحكومة تحت ضغط المتظاهرين الغاضبين الذين يراقبون ما ستؤول اليه المفاوضات، ويخشى السياسيون من اعادة سيناريو المحاصصة في توزيع المناصب، خوفا من المحتجين الذين ينادون بالإصلاح ويدعمهم في ذلك السيستاني.
وأيضا، هي المرة الاولى التي يتنازل فيها التحالف الفائز في الانتخابات عن المطالبة بالمناصب وموقع رئيس الوزراء، فأعلن زعيم تحالف «سائرون» مقتدى الصدر الاسبوع الماضي عن مقترحات جريئة لإخراج البلاد من الازمة، وأعلن موافقته على ان يكون رئيس الوزراء الجديد مستقلا، تحبه الجماهير، وان يكون وزراء حكومته من التكنوقراط، وهدد الصدر في حال عدم موافقة بقية الاحزاب على هذه الشروط، فانه سيختار المعارضة في البرلمان، برغم انه الفائز في الانتخابات، وسينضم إلى التظاهرات.
علي السيستاني اللاعب الآخر المؤثر في البلاد، طالب أيضاً باختيار رئيس وزراء قوي يمتلك الشجاعة في محاربة الفساد، وحكومة أعضائها تكنوقراط، معلنا دعمه لاستمرار الاحتجاجات الشعبية لإبقاء الضغط على السياسيين حتى تلبية مطالبهم.
ويقول النائب السني عبد القهار السامرائي إن «المواطنين فقدوا الامل في السياسيين، والاحزاب التي تتفاوض حاليا بشأن تشكيل الحكومة اصبحت في وضع صعب، بسبب ضغط الاحتجاجات، والمرجعية الدينية في النجف».
ويضيف السامرائي لـ «نقاش»: انه «لا بد لنا ان نذهب الى حكومة بمواصفات جديدة بعيدا عن الصفقات السرية لتقاسم المناصب، اليوم الذي يضغط نحو قرارات ايجابية هم المواطنون والمرجعية الدينية في النجف، في حين ما زال السياسيون يفكرون في تكرار التجارب الماضية، الحل الوحيد لإنقاذ البلاد هو حكومة تكنوقراط تنقذ البلاد من الفساد والدمار».
الكوارث والدمار الذي خلفته المعارك ضد «داعش» اوجد حالة من الوحدة الوطنية بين العراقيين، وما زالت قصص الوحدة الوطنية بين الجنود العراقيين وبين سكان المدن التي احتلها المتطرفون تتداول فيما بينهم، وهم اليوم متوحدون على ان من سبب لهم آلاف الضحايا من الجنود والسكان ودمار المدن يتحمله السياسيون فقط.
نفوذ إيران ودول الجوار
للمرة الاولى منذ سنوات يعيش العراق حالة من الهدوء الدبلوماسي مع جيرانه الذين طالما جعلوا البلاد ساحة لتصفية حسابات مع خصومهم، فالدول الخليجية وعلى رأسها السعودية التي كانت متهمة بإرسال الإرهابيين الى العراق، فتحت ابوابها الدبلوماسية مع العراق، واليوم هناك تنسيق كبير بين الحكومة العراقية ودول الخليج لدعم العلاقات المشتركة سياسيا وتجاريا واقتصاديا.
اما سورية التي كانت معبرا لإدخال الإرهابيين الى البلاد خلال العقد الماض،ي باتت اليوم متوغلة في ازمة داخلية، في حين ان تركيا وإيران يواجهان اليوم مشكلات داخلية كبيرة بسبب العقوبات الأميركية.
ومن اللافت ان الحكومة العراقية المنتهية ولايتها برئاسة حيدر العبادي، اتخذت قرارا جريئا بالالتزام في هذه العقوبات لحماية مصالحه الوطنية، وهو خيار لم تكن بغداد تملك غيره، فمن الخطورة المجازفة بالعلاقة مع الولايات المتحدة التي تساهم في ملاحقة المتطرفين في البلاد حتى الآن، وتقوم ببرامج تأهيل وتسليح قوات الأمن العراقية.
وينظر المجتمع الدولي برمته الى العراق نظرة تعاطف، فالأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، والولايات المتحدة، تسعى الى دعم البلاد وإعادة بناء ما دمرته الحرب، وبدأت فعلا في تنفيذ مشاريع تنمية صغيرة يجب ان تكون أكبر، ولكنها بانتظار حكومة اتحادية وطنية، تضمن عدم ذهاب الأموال الى فاسدين، وتسعى بقوة نحو توفير الخدمات، وبناء نظام إداري رشيد يلبي مطالب المواطنين.
على السياسيين العراقيين إدراك حجم الكارثة، واحترام حالة الوحدة الوطنية بين العراقيين، واستثمار الدعم الدولي من اجل العمل على اتخاذ قرارات وطنية حاسمة تأخذ بنظر الاعتبار المصالح الوطنية، والعمل على تجاوز أخطاء الماضي، انها الفرصة الأخيرة لنهوض العراق، او العودة الى انهيار جديد لا يمكن التكهن بنتائجه هذه المرة.
الاثنين الماضي كتب النائب مشعان الجبوري على صفحته في «تويتر» يقول «أن تصل التطورات الى خروج تظاهرة في جنوبي العراق (الشيعي) تشيد بالرئيس السابق صدام حسين وفترة حكمه، معناه ان الامور بلغت حالة من الفشل والسوء ما يتطلب تغيير قواعد العملية السياسية برمتها، وإلا سيكون الجميع في خطر».
*نقاش