تصفية الكفاءات:
تتعدد التفسيرات الخاصة باستهداف العلماء، سواء على صعيد الخبرات العسكرية أو العلمية أو الفكرية، في عدد من الدول العربية، سواء بالاغتيال أو الاختطاف، منها توجيه التنظيمات الإرهابية ضربات انتقامية ضد بعض النظم العربية، وعدم تجاوز القدرات التكنولوجية لإسرائيل على نحو يُبقي موازين القوى مختلة، وتكريس دور الدول الغربية في المجالات العلمية التقنية، وتنامي اقتصاديات العصابات الإجرامية، وبروز الأبعاد الطائفية في التفاعلات الداخلية.
ولم يكن استهداف العقول العربية ظاهرة حديثة، بل يعود إلى سبعة عقود مضت حينما تم استهداف العلماء المصريين والعراقيين المتخصصين في التكنولوجيا النووية، ثم امتدت الظاهرة إلى العلماء التونسيين، والسوريين، والفلسطينيين، خلال السنوات القليلة الماضية، وخاصة في تكنولوجيا صناعة وبناء الصواريخ والطائرات من دون طيار، والهندسة الإلكترونية والكهربائية، والأسلحة الكيماوية، بما يقود إلى تصفية أصحاب الكفاءات وتفريغ الدول العربية من الخبرات والتخصصات النادرة.
وبوجه عام، يمكن القول إن هناك مجموعة من العوامل التي تفسر استهداف العلماء في الدول العربية، في المرحلة الحالية، يمكن تناولها على النحو التالي:
انتقام الإرهاب:
1- ضربات انتقامية ضد بعض النظم العربية: سيما من جانب التنظيمات الإرهابية، وهو ما يعبر عنه مقتل مدير مركز البحوث العلمية التابع لوزارة الدفاع السورية اللواء عزيز أسبر في الرابع من اب أغسطس الماضي، في انفجار استهدف سيارته في ريف حماة وسط سوريا، وفقًا لما أورده المرصد السوري لحقوق الإنسان، إذ يعد مطور البراميل المتفجرة التي استعملت ضد المدنيين، طبقًا لمزاعم المعارضة.
وقد أعلنت «كتيبة أبو عمار» – في بيان على تلغرام- وهى جماعة تابعة لـ»هيئة تحرير الشام» مسؤوليتها عن الهجوم، مع الأخذ في الاعتبار أن «الهيئة» تضم «جبهة النصرة» التي تعد فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا. كما سبق أن اتهم النظام السوري «الجبهة» باغتيال خمسة علماء ذرة في التاسع من تشرين الثاني نوفمبر 2014، في منطقة تقع على الأطراف الشمالية للعاصمة دمشق، من دون التأكد من تفجير عبوة ناسفة بالحافلة، أو إطلاق النار عليهم في سيارتهم.
سياسة الردع:
2- منع تهديد بعض القوى الإقليمية (إسرائيل): إذ يتهم أسبر بالمساعدة في صنع الأسلحة الكيماوية التي استعملت من قبل قوات الأسد ضد المعارضة والمدنيين في الغوطة الشرقية ودوما في فترات زمنية متعددة، وفقًا لاتهامات من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية والمعارضة السورية، على نحو قد يفرض تهديدات لإسرائيل في لحظة ما. فضلاً عن تأكيد محققي منظمة حظر الأسلحة الكيماوية على التوصل لأدلة تفيد استعمال مثل هذه الغازات السامة، ما دفع الولايات المتحدة لشن هجوم صاروخي على مطار الشعيرات بحمص في نيسان إبريل 2017، بخلاف استهداف مركز البحوث العلمية في مصياف بغارة إسرائيلية في أيلول سبتمبر 2017 ويوليو 2018.
وفي هذا السياق، اتهمت وسائل إعلام إيرانية وسورية (موالية لنظام الأسد) إسرائيل بالوقوف وراء هذه العملية التي استهدفت أسبر بوصفه مسؤولاً عن تطوير منظومة الصواريخ السورية طويلة المدى، المعتمدة على صاروخ «فتح» الإيراني، وكذلك لجنة التنسيق المشتركة بين سوريا وإيران و»حزب الله» فيما يخص نقل الأسلحة، إلى جانب كونه مسؤولاً عن الأسلحة غير التقليدية، وبينها غاز الأعصاب، على نحو دعا وزارة الخزانة الأميركية إلى فرض عقوبات على خمسة كيانات، وثمانية أفراد، لهم صلة ببرنامج سوريا للأسلحة الكيماوية، وأسبر كان واحدًا منهم.
ولعل اتهام إسرائيل بتدبير مثل هذه العملية- وفقًا لما ذكرته إحدى الصحف الإسرائيلية- مرجعه استهداف إسرائيل في فترات سابقة شخصيات عربية أخرى تعمل في مجال الصواريخ مثل الفلسطيني الدكتور فادي البطاش، الذي قتل في ماليزيا في نيسان إبريل الماضي، ومحمد الزواري الذي شارك في تصنيع طائرة من دون طيار «أبابيل» لصالح «كتائب القسام» (الجناح العسكري لـ»حماس») والذي اغتيل في تونس في 15 كانون الأول ديسمبر 2016. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أسبر ربما يمثل هدفًا ثمينًا لتل أبيب، طبقًا لتحليل سائد في بعض الكتابات، إذ أنه حاصل على شهادة الدكتوراه بالفيزياء الذرية، والدكتوراه بالوقود الصاروخي السائل من فرنسا، ويعد أحد الشخصيات المحاطة بسرية عالية نظرًا لطبيعة المهام الموكلة إليه فيما يخص التطوير العلمي والملف الكيماوي.
تبعية عربية:
3- رغبة القوى الدولية في تكريس دورها علميًا وتكنولوجيًا: ترى اتجاهات عديدة أن استهداف تلك العقول يتطلب التفكير في سد الفراغ الناشئ في بعض التخصصات من ذوي المهارات العالية، عبر استيراد الخبرات العلمية من خارج البلاد العربية، بما يزيد من تكلفة الإنتاج العلمي والتقني، ويحد، وفقًا لها، من الاستقلالية والسرية العلمية التي تتطلبها عملية الإنتاج تلك، سيما الإنتاج العسكري، إلى جانب تعطيل أي مشروع علمي للنهوض بأوضاع أي دولة عربية، خاصة في المجال العسكري، سيما النووي. كما أن التراجع الملموس في أداء بعض المؤسسات العلمية يدفع العاملين فيها إلى الهجرة للدول المتقدمة، فيما يعرف بهجرة أو نزيف العقول Brain Drain.
شبكات الظل:
4- تنامي اقتصاديات العصابات الإجرامية: التي استغلت اضطراب الأوضاع الداخلية، أو تعثر الأجهزة الأمنية في أداء مهامها بعد الثورات الشعبية، أو الصراعات الداخلية. إذ تشهد سوريا عمليات اختطاف لبعض العلماء والأطباء من قبل بعض العصابات المسلحة، وتشترط للإفراج عنهم الحصول على مبالغ مالية، سيما في حال اليسر المادي لذويهم، وهو ما تشير إليه بعض مواقع التواصل الاجتماعي. وقد تفرض عليهم تلك العصابات إتاوات شهرية في مقابل عدم التعرض لهم.
وقد تحول هدفها، في بعض الأحيان، إلى الاغتيال لاستعمال الأعضاء البشرية في تجارة مربحة. كما أن هناك العديد من العصابات التي تقوم بخطف العلماء العراقيين وقتلهم من دون طلب فدية، وهو ما ترى بعض الأطراف أنه يدل على أن هناك جهات خارجية تقف وراء اغتيال العلماء، مدعومة ليس من قوى داخلية، ولكن من جهات خارجية، والتي تزودهم بالأموال والأسلحة لتنفيذ المهام الموكولة إليهم.
عنف المذهبية:
5- بروز الأبعاد الطائفية في التفاعلات الداخلية: تشير بعض الكتابات إلى استهداف الأكاديميين العراقيين لأسباب طائفية، خاصة منذ تسلم الأحزاب الشيعية حكم البلاد في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، والغزو الأميركي للعراق، على نحو يشكل خطرًا على الهوية الوطنية، بحيث يطلق البعض عليها «الموجة الثانية» التي تستهدف أساتذة الجامعة والباحثين السنة العاملين في جامعات بغداد والبصرة والموصل والمستنصرية وصلاح الدين وديالي وكربلاء والنجف، ويحملون الدكتوراه في العلوم والطب، وخاصة من الولايات المتحدة وبريطانيا.
ويرجع ذلك إلى الشحن الطائفي الذي أبرزته صراعات الإقليم والحرب ضد تنظيم «داعش» في البلاد. وفي الوقت الذي لم تفض التحقيقات إلى نتائج تذكر، وجهت الاتهامات على نطاق واسع إلى الميلشيات الشيعية، التي ترتبط بإيران، خاصة أن الأخيرة، طبقًا لاتجاهات عديدة، تنتقم من الكفاءات العراقية التي صنعت القوة العراقية في أثناء حرب السنوات الثماني التي خاضتها العراق ضد إيران، فضلاً عن إضعاف العراق وعرقلة إعادة الإعمار ومنع تحوله مرة ثانية إلى قوة قادرة على مواجهة النفوذ الإيراني في الإقليم.
آلية التدمير:
خلاصة القول، إن ثمة موجة حالية من استهداف الميلشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية للعلماء في بعض الدول العربية، سيما التي تعاني من اضطرابات داخلية، فضلاً عن محاولات القوى الدولية استمرار السيطرة على القدرات العلمية ووضع برامج لإعادة تأهيل بعض علماء المنطقة في حال قبولهم العمل بالمهجر، على نحو ما فعلته الولايات المتحدة بتخصيص برنامج لـ»تأهيل العلماء العراقيين» في كانون الأول ديسمبر 2003، لمنع تسريب أو تحويل معلومات إلى منظمات ودول معادية لها، واتجاه بعض القوى الإقليمية إلى تجنيد أطراف من الداخل أو الخارج بهدف تصفية بعض العلماء العرب في مجال التصنيع العسكري.
المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة