أحمد رجب
مصطفى البلكي ينصب شركا للقارىء، الذي لا يجد الفتنة إلا في ومضات سريعة مغوية، تقوده لدروب الفقد ومكامن الوجع التي تحكي عنها الرواية.
«ممرات الفتنة» عنوان مخاتل اختاره مصطفى البلكي لروايته الفائزة بجائزة بهاء طاهر التي ينظمها اتحاد كتاب مصر، ناصبا به شركا للقارىء، الذي لا يجد الفتنة إلا في ومضات سريعة مغوية، تقوده لدروب الفقد ومكامن الوجع التي تحكي عنها الرواية عبر أكثر من أربعين عاما من تاريخ أسرة سيد الحناوي.
تمتد الأحداث منذ ما قبل بناء السد العالي وحتى نهايات القرن العشرين، وهي الحكاية التي يلخصها صابر بقوله: «غابت أقمار وولدت شموس، فكانت الأيام كبيسة كلها، ومؤلمة لحد الوجع المكتوم»، بينما تتناثر تفاصيلها بامتداد فصول الرواية من خلال حكايات فرعية تتوالد تلقائيا عبر أزمنة مختلفة ومتداخلة، يحكي أغلبها راو عليم بمصائر شخصياته، وحينما يدع لهم أحيانا فرصة الحكي ويسمعنا أصواتهم، لا ليشركهم معه بل ليرينا مدى هيمنته عليهم، فهم وإن حكوا لا تختلف حكايتهم عما يرويه الراوي المهيمن، وحتى أصواتهم لا تختلف كثيرا عن الصوت الذي سمعناه، لذا فالرواية ليست بوليفونية حتى وإن واصل الراوي نصب الشراك وأوهمنا بتنازله عن الحكي أحيانا لصالح أصوات الشخصيات الرئيسة في الرواية: غصوب وصابر ورقية وثورة.
غرباء يسكنون التلة
تبدأ الحكاية بنزول سيد الحناوي لأرض القرية، لكنه لم يبرحها كما يليق ببائع متجول، يحمل مخلاته الملأى بالبضائع ويطوف القرى بحثا عن الرزق، وهو ينادي معلنا عن وجوده: «أنا الحناوي.. أجرح وأداوي.. والبنات.. ع القنطرة…والشعر.. بيلعب ف الهوا”.
يحاول سيد أن يغرس لنفسه جذرا في القرية، فيتزوج من سندس ابنة الطايع، ويبني لها بيتا في التلة، وهي مكان خارج القرية، يشرف عليها لارتفاعه عنها نسبيا. هنا نلاحظ أن الحناوي وحماه اكتسبا لقبيهما من مهنتيهما، فالحناوي يبيع للنساء أصنافا من بينها الحناء بينما الطايع يعمل في مهنة انقرضت، يهش أطفال القرية بعيدا عن النهر حتى لا يجرفهم الفيضان، فالغريبان بانتساب كل منهما إلى مهنته يؤكد أن لا عائلة له، وتتأكد غربتهما بسكنى التلة على تخوم القرية التي نفتهما إلى هامشها كما اعتادت أن تنفي كل الغرباء، وتتأكد الغربة في الرواية بخلوها من أي شخصيات تنتمي للقرية، وعدم مشاركة أهل القرية في أحداث الرواية اللهم إلا حين يستدعيهم المؤلف في المشاهد التي تتطلب حضورا جماعيا عابرا، كمشاهد دفن الموتى.» فائزة بجائزة بهاء طاهر «
يغيب سيد الحناوي عن التلة بعد التحاقه بالجيش، يفقد ذراعه في الحرب ويعود مهزوما فلا يجد سندس في انتظاره، كانت قد ماتت عقب ولادة غصوب، «لم يمهلها القدر لتسجل ملامح صغيرها جيدا، نظرة واحدة، والحبل السري بينه وبينها، نبهتها إليه صرخاته الأولى وهو يستقبل الحياة»، لكنه يلملم جراحه ويواصل الحياة، فيتزوج من تهاني وينجب منها ولده الثاني صابر، وتدور به عجلة الحياة «فيواصل تجواله في العزب والقرى البعيدة والقريبة، والمخلاة معلقة في كتفه»، يطوي جوانحه على مرارة الهزيمة ويحاول الحياة حتى صدمه الرئيس السادات، موقظا وجع الذراع المبتور، تحكي تهاني: «تركته وكنت بعمل لقمة ليه، وأنا قدام النار سمعت صرخته، ولقيته متصلب قدام الراديو، وهو بيسمع خبر زيارة السادات (للي ميتسموش)، شفت واحد تاني، واحد ظهر فجأة في قلب المندرة، مكنش شايفني، هو كان شايف نفسه وهو بيلم دراعه المقطوع، وحواليه النار والموت من كل جانب، وقفته مطولتش، طلع من هدومه، ومسك بالعتلة اللى بنسند بها الباب وخرج، وأنا خرجت وراه».
وخارج البيت يتحلق أهل التلة حوله، يصف أحدهم حال سيد الحناوي بقوله: «هو ده الجنون بعينه» ص 28، لكن سيد لم يفقد عقله، يستعيد هدوءه ويعود لبيته، وفي الصباح التالي يحمل مخلاته مغادرا، ككل صباح، لكن عودته تتأخر، ويطول انتظار تهاني والولدين حتى المساء، حين يعود سيد محمولا بعد أن غادرت الحياة جسده المعطوب، يقول أهل التلة: «غريب وهندفنه في مدافن الصدقة»، لكن تهاني تلحظ دهشة غصوب الذي لم يدرك كون أبيه غريبا عن القرية إلا يوم موته، كما لم يسبق له معرفة حقيقة اسمه وإنه غصوب وليس نصرا إلا يوم دخوله المدرسة، هو كذلك دائما لا يدرك الحقائق في وقتها، على العكس من تهاني التي تدرك بفطرتها أن دفن سيد في مدافن الصدقة سيجعل غربته أبدية، وسيقتلع جذوره من القرية نهائيا، فتغرس الجذر في حوش داره، «لما توصلت لقرار ارتاحت، وفي لحظة خروج النعش محمولا، جمعت قوتها، وكسرت الطوق، واندفعت، وتعلقت بالحسنية (النعش) وهي تردد خليك هنا».
تقاوم محاولات إبعادها وتخاطب الميت: «علشان خاطر عيالك خليك هنا»، تبني له مقبرة (لحد) ليدفن على مرمى بصر ولديه، فيما بعد تفسر لصابر: «مكنش قدامي طريق تاني غير ده،…، كنت زي الأم اللي بتحارب الوجع علشان تجيب مولود يوصلها بالحياة، كنت ببحث عن الحياة لك ولغصوب، الجذور المتبتة في الأرض بتخلي النبات قوي».
احتلال الجسد
لم يكن أمام غصوب بعد أن ورث مخلاة أبيه إلا أن يحمله ليطوف مثله بالقرى، ويتزوج من رقية، وينجب طفلة، ويبدو أن الحياة ستستمر كذلك، لكن جسده يتعرض مثل جسد أبيه للعطب، «عقب التصادم بين السيارة التي كان بداخلها وشاحنة محملة بالحديد»، فيعود للبيت جثة لم تفارقها الحياة، ويصبح من مهام زوجته أن تغير له الكافولة، تزداد حاجته إليها وإلى أخيه، يفكر في أن يربطهما معا برباط لا ينفك، فيخاطب صابر آمرا: «لازم تحتل جسد رقية».
ويلح على هذا الطلب الشاذ حتى يستجيب صابر في الفصل الأخير «بحر لجي»، وبتحريض من رقية نفسها. واللافت أن الرواية التي رسمت له هذا المصير منحته اسم «غصوب» وهو صيغة مبالغة من غاصب، بمعنى القاهر، أو آخذ الشيء قهراً وظلماً. لكنه هنا مغتصب، ومقهور يسلم جسد زوجته طوعا، يدرك أن حياته لن تستمر بدونهما، وأن لا حياة، «راقب وجه صابر وهو يفقد كل الحياة التي تستوطنه، الشرفات المتاحة له قد أغلقت، وما عادت تشع النور، ولا تستقبل شيئا، وأصبح يشبه رقية التي تقوم بكل أعمال البيت من دون تذمر، ومن دون أية علامة تدل على نهاية خط الصبر لديها»، فكأنه وهو يخطط لربطهما معا يمارس فعلا ما ينفي عنه العجز ويؤكده في آن، ليس مجرد العجز بل ربما غصوب بهذا الطلب يعلن موته. (خدمة وكالة الصحافة العربية).
*عن موقع ميدل ايست اون لاين