يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 34
حوارات مع جرجيس فتح الله*
في ضحية يوم 14 من تموز 1958 ، وجد هذا مدونا في كل ماتحدث به المؤرخون عن تفاصيل ذلك اليوم . كان قد انيط بالعقيد (وصفي طاهر ) مهمة القاء القبض على نوري السعيد وسد ابواب الفرار بوجهه اعتمادا على معرفة تامة بمنزله ، وبحكم كونه مرافقا عسكريا له طوال سنوات ، لكنه لم يجده فقد سبقه وهرب . وكره العقيد ان يعود خالي الوفاض الى رئيسه ولما كان على دراية بكلف الزعيم الركن عبد الكريم قاسم بجمع المستمسكات والوثائق عن الاشخاص ، اعداء او اصدقاء ، فقد حمل اليه نسخة من ديوان الجواهري على زاويتها اهداء من الشاعر لنوري السعيد مذيل بتوقيعه ثم اسرع ليجد في اثر طريدته الذي سبقه فبخع نفسه قبل ان تناله رصاصة المرافق في عرض الشارع على نحو ماهو معروف .
وفي منتصف العام 1960 ومابعده وانا متخف عن الحاكم العسكري العام والمجلس العرفي العسكري بسبب تهمه لاشأن لها بالعلة الحقيقية لمطاردتي وفي منزل صديق لم يعد بين الاحياء اليوم – اتابع بدقة تلك المشادة التي بلغت حد الاسفاف بين “الرأي العام ” جريدة الاستاذ وبين جريدة “الثورة ” وصاحبها صديق مقرب من (قاسم) ينطق بلسانه . والظاهر ان الدكتاتور ضاق ذرعا بما يكتبه الجواهري حول الحريات المهتكة والكرامات المهانة وبلغ الاوج فيها بالافتتاحية الشهيرة “ماذا في الميمونة ؟” وراح الجميع يرقب بلقب واجف الوعد الذي قطعه صاحب الثورة بأنه سينشر في عدد تال صورة زنغرافية لمستمسك يدين الجواهري ويخزيه .
خيل لقاسم ان الوقت حان للأفادة من “المستمسك ” الذي جاء به مرافقه من منزل “السعيد” فاستدعى صاحب “الثورة ” وسلمه صحيفة “الاهداء ” من ديوان الجواهري لنشرها.
علمت بهذا كله وانا في مخبئي مع صديقي الذي اواني فقد كان ذا صلة وثيقة بصاحب الثورة وموضع ثقة وهي علاقة غريبة صمدت رغم الخلاف الفكري ،فقد بقي الصديق موضع سر للصحافي ، اعلمني الصديق انه رأى صحيفة الديوان فوق مكتب صاحبها يريها لزوار مقربين منبئأ بعزمه على نشر صورتها في صدر الصحيفة . ومن قرأ “الثورة في حينه فلا شك سيجد كما وجدت اعلانا بارزا في واحد من اعدادها حول اعتزامها نشر “مستمسك يدين الجواهري “.
قلت لصاحبي بلهجة مازحة ، ولم اكن جادا بها والله .
– ابوسعك ان تختلسها ؟
ولدهشتي التامة اجاب بكل جد “قبل النشر او بعده ؟” قلت ومازلت غير مصدق “لايهم ، والافضل قبله “.
في اليوم التالي كانت الصحيفة الاولى من ديوان الجواهري وعليها الاهداء اي “المستمسك ” في يدي !
لا ادري كيف فعل ذلك . ثم واعلمني الصديق انه كان يقف موقف متفرج عندما راح صاحب الثورة يقلب مكتبه عاليه سافله ويتهم هذا المحرر وذاك بسرقة المستمسك . وفي حينه ماكنت ولا احد غيري يقدر جدية عبد الكريم قاسم وتصميمه على نشر المستمسك ، وربما دفع بها للتهديد ليس الا ؟ وربما كان صاحب ” الثورة ” يتربص لتحزب الامور وتبلغ بين الشاعر وبين صديقه الحاكم طريقا مسدودا .
مضت ايام انتقلت بعدها الى منزل اكثر امنا وانا احتفظ بالورقة ، لا ادري ماذا اعمل بها . ومرت اسابيع برئت خلالها ساحتي فخرجت من مخبئي حرا واستأنفت حياتي العادية مساهما في تحرير جريدة الحزب الديمقراطي الكوردستاني “خه بات ” .
وفي ذات يوم اتصل بي صديق العمر ورفيق الصبا “الاستاذ محمد توفيق حسين” وكان يتولى اذ ذاك منصب مدير الارشاد العام في وزارة الثقافة والاعلام ، مقترحا ضمي الى مجموعة الصحافيين التي ستخرج لاستقبال وفد الصحافة السودانية ورئيس نقابتها فسألته عمن سيكون خلافي فقال الجواهري رئيس نقابتكم طبعا ، وعدد اخر بينهم صديقي المأسوف عليه الدكتور اكرم فاضل احد المدراء في تلك الوزارة وذكر لي ان اجتماعا سيكون في فندق بغداد ومنه سنستقل السيارات الى المطار .
ليكن معلوما اني لم احاول لقاء بالجواهري قبل هذا رغم اني كنت ازود جريدته وانا في مخبئي ببعض المقالات فينشرها دون معرفة بمرسلها .
اخذت الورقة وقصدت الفندق . مازالت تلك الجلسة ماثلة لاتبرح مخيلتي وكأنها كانت امس وكان الجواهري قبالتي جالسا ونحن في الطبقة الثانية ننتظر اكتمال النصاب وانتابني ضيق وانا اتربص بفرصتي ، كيف سأنفرد به وكيف سأدس الورقة في يده دون اثارة فضول .
لم يطل الامر بحيرتي فقد نهض الجواهري وسار يريد دورة المياه فصبرت عليه قليلا ثم لحقت به فأدركته ووضعتها بيده ففضها والقى نظرة عليها وقلت له :”هذا المستمسك الذي هددك به قاسم وصاحب الثورة “.
شخص الي برهة ثم مال فأمسك بيدي وهزها ثم شدني الى صدره بقوة وبقي صامتا لاينبس بحرف ووجدت صمته ابلغ من اي كلام ، ثم تولى عني وهو يميل برأسه الى اليمين والى اليسار .
بطبيعة الحال لم يكن هذا مما يذاع ويروى . مرة واحدة خرجت الحكاية من
فمي عندما جر حديث بيني وبين السيد مسعود البارزاني (رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني ) الى الجواهري وشعره ومسعود من المعجبين به ويكن له احتراما خاصا وهو يحرص على زيارته كلما حط به رحله في دمشق .
مارأيت نفسي الا وانا اروي له تفاصيل الحادث ، ولا ادري اكان ذلك في كردستان او ايران او السويد . ربما قبل عشر سنوات وربما قبلها . قال مسعود معقبا :” سأذكره بها عندما اعرج عليه “. فقلت :”لا تفعل ارجوك ” وهذا ما سيكون سرا لايتجاوزنا حتى مماته . اني اكره ان تأخذ اي كائن الظنون بي بأني اتاجر بدالة او فضل “.
ترشيح لعضوية المجمع العلمي العراقي
س: في العام 1970 رشحتم لعضوية المجمع العلمي العراقي . ولم يتم ذلك ، ما السبب ؟
اظنك قرأت هذا في غلاف لكتاب او اثنين صدر لي – ضمن فقرات تعريف بي اثبتها الناشر – لم يكن ذلك من تدبيري او تصميمي وربما كنت قد رويتها او سمعت مني في حديث فوجد ناشرو كتبي فيها وسيلة لترويج الكتاب تجاريا جريا على اسلوب التقديم الذي دأب عليه الناشرون في عصرنا هذا . الا اني فطنت الى الامر فأبديت رغبتي ومطلبي القاطع بألا تضمن هذه الواقعة ما يراه الناشر ضروريا للتعريف بي . فالانتماء الى مؤسسة علمية لايزيد من قدر الكاتب وعدم الانتماء لاينقص من شهرته . على ان هذا الترشيح وقع فعلا وقبولي العضوية في المجتمع العلمي العراقي كان منوطا بي وقد اعتذرت بحجة تعذر الجمع بين التفرغ للعلم وبين ممارسة العمل السياسي .
س: مع هذا فالعرض هو نوع من التكريم والاعتراف بكفاءة واعتقادي بان عرضا كهذا والقبول به لايتنافى مع الاشتغال في الشؤون العامة وهو بالتالي لايشبه ترشيحا لمنصب حكومي رفيع قد تلجأ اليه حكومة معينة لاسكات معارض مثلا ، او نتيجة صفقة سياسية محلية ، لاريب وان هناك علللا حقيقية تختفي وراء العذر الذي تعللتم به .
لاادري قد تكون ثمة اسباب اخرى لاتبدو ظاهرة الوجاهة لو تعللت بها او بالاحرى ان ظاهرة الافتعال بهذا الاعتذار لاتخفى تفاهتها على السامع اللبيب بكونها العوض المؤدب عن الرفض الصريح . وسأروي لك التفاصيل ولك ان تستخلص ماتشاء . ذات يوم وربما كان في اوائل ايار والشهر شهر رمضان انبأني هاتفيا الاستاذ كوركيس عواد عضو المجمع العلمي هاتفيا بانه ينوي زيارتي لامر لايمكن تاجيله . رحبت بقدومه وجاء . كان معلما لي في المدرسة الابتدائية بالموصل وهو ممن كان ذا تأثير كبير على حياتي الفكرية كما ذكرت ، ثم نقل الى بغداد امينا لمكتبة دار الاثار وظهرت هناك اثار نبوغه العلمي ليغني المكتبة العربية بآثار نفيسة وتراجم علمية قيمة . وقد ضم الى المجمع العلمي مؤخرا . قال لي يود رئيس المجمع العلمي ان يراك ليزف اليك نبأ سارا وسيكون من دواعي سرورنا ان نطوف بك ابهاء وبنايات البناية الجديدة للمجمع العلمي .
وقتذاك كان رئيس المجمع الدكتور ( عبد الرزاق محي الدين ) ولم التق به وكل ماعرفته عنه ايامها انه حقق ونشر في العام 1954 او 1953 كتاب “البصائر والذخائر” لمؤلفه الفيلسوف والصوفي الشهير “ابو حيان التوحيدي” المتوفى في بغداد العام 1010 ميلادية (وله رسالة جامعية فيه على مااتخطر ) . كان التوحيدي من العلماء الكبار الذين جددوا في اساليب الكتابة العربية ووضعها على سلم التطور الحديث . وان الدكتور نال به درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة . وهو دائرة الوحيد العلمي . كما عرفته يحتل كرسي الاستاذية للغة العربية في جامعة بغداد في العام 1960 او نحوه عندما كان يعالج الكتابة في مواضيع قومية” .
وسياسية وكنت قد تصديت لمناقشة اخطاء لغوية وردت له في مسالجة سياسية تبادلها والاستاذ مسعود محمد في احدى جرائد العاصمة لم تعجبنا نحن محرري جريدة خه بات . كما كان وزيرا لوزارة جديدة استحدثت بعنوان (وزارة الوحدة ) في عهد ( عارف ) الثاني . واذكر ان تحقيقه وتعليقه على كتاب ابي حيان التوحيدي لم يكن في رأيي الصديق الاستاذ محمد توفيق حسين جيدا وهو اثره الوحيد .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012