الديمقراطية في أميركا

يتناول كتاب “الديمقراطية في أميركا” للباحث والخبير شبلي ملّاط، ظاهرة مهمة للغاية على الصعيد العلمي وعلى الصعيد السياسي، ألا وهي تشريح العملية الديمقراطية، وتشريح النظام الديمقراطي، ولعل أفضل طريقة لإنجاز هذا الهدف المهم في عالمنا وفي بلدنا الباحث بلهفة عن انموذجه الديمقراطي أنه يرتكز على دراسة حالة عيانية مهمة وهي حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة.ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب ارتكازه الى واحدة من أهم المرجعيات في الدراسات الديمقراطية أليكسس دي توتكيفل الذي يعدّ أهم المراجع المتاحة لدراسة هذه التجربة.
وكذلك تكمن أهمية الكتاب في أنه يشير الى التحولات الجديدة في العالم الراهن وهي تحولات لابد من وضعها في إطارها التاريخي والإنساني.وهو أيضا يرسم الطريق لمجتمع بلا عنف، ومجتمع يرتكز على التعاون والتفاهم الإقليمي المرتكز على نشر قيم المساواة، ومحاربة الفقر، ونبذ الاستغلال الاقتصادي للشعوب.
كما أنه يتيح للقارئ إدراك إمكانية خلق نظام عالمي واسع من دون أوهام التسلط الإمبريالي أو الدكتاتوريات الأيديلوجية، ويعلي بشكل كبير دور العدالة والقضاء في تنظيم التوازن الاجتماعي وتعزيز القيم الحضارية والانتصار للعدل والحياة.
تنشر “الصباح الجديد” حلقات من هذا الكتاب كإسهام في تعميق الجدل والمعرفة وتوسيع دائرة العلم بالمناهج والمراجع الضرورية للعملية الديمقراطية بنحو عام وفي العراق بنحو خاص.
الحلقة 1
شبلي ملّاط:

مدخل
1 – تحديات الزعامة في النظام العالمي
قد تلقى ريادة الولايات المتحدة عالميا استحسان البعض , واشمئزاز البعض الاخر , وتأرجح الكثيرون ما بين شجب وارتياح الا ان حقيقة ثابتة في نهاية هذا القرن .
وقد لا يكون عالما احادي القطب امرا جديدا في تاريخ الانسانية وقد جثمت الامبراطورية الرومانية على معالم الحضارة المعروفة حول المتوسط منذ الفي عام وتفردت الصين في (امبراطورية الوسط) لقرون طويلة في ظل سلالة الهان كما تألق الاسلام رائدا نحو العام الف ,وحكمت انكلترا في عهد الملكة فيكتوريا اقاليم لا تغيب عنها الشمس .
وفي جميع الاحوال تراجعت الريادة العالمية لهذه القوى بأنماط مختلفة وبوتائر متفاوتة , واندثرت هذه الامبراطوريات لسبب او لاخر .
فلا بد يوما لسلطة الولايات المتحدة العالمية ان تندثر كذلك ومن المؤشرات الحديثة على امكانية افوالها الانحسار الاميركي لدى صعود روسيا في فضاء سبوتنيك .
وتراجع واشنطن العسكري في العالم الثالث في اوائل السبعينيات. ولا بد من ان يتجدد الاحساس بالتراجع الاميركي في الساحة الدولية عندما تنفجر سلة الاسواق عن تخمتها الاساسية في التسعينيات ،معيدة الاقتصاد الاميركي يستلم زمام الحكم في اوائل سنة 2001 ولاسابقة لسلطته في التاريخ وبان معيار نجاحة في المدى القصير هو مرتبط بسنواته الاربعة او الثماني في السدة الرئاسية او في المدى الارحب الذي يطال القرن الحادي والعشرين في العمق .رهن استمرار العالم تحت ريادة واشنطن كما كان جل القرن السابق اميركيا . هذه المسؤولية يتفرد بها الرئيس الاميركي من بين الزعماء السياسيين في العالم .
فالعلم الاميركي وقد تطورت فنون الكومبيوتر بشكل حاسم في السيليكون فالي على امتداد العقود الثلاثة الماضية ودخلت تكنلوجيا الكومبيوتر جميع القطاعات الاقتصادية المتقدمة في العالم اسره بالمثل المحتذى في اميركا كما غير الانترنيت وهوة الصنيعة الاميركية الصرف ، مقاييس التجارة العالمية في السنوات الثلاث الماضية بعد ما قلب الحياة اليومية راس على عقب, اولا في حقل المعلومات وبعدها في النشر . الى ان اعزا العالم السياسة والاعمال والثقافة .
والاقتصاد قاطرته اميركية : فبعد فترة تردد اقتصادي كرسه عجز مزمن في الميزانية . اعادة العجلة الاقتصادية الى نمو متميز في الولايات المتحدة. وقد وصل فائض في السنوات القليلة الماضية الى الف مليار دولار , في بلد يشكل ناتج الاقتصادي ضعف مثيله في اليابان ثاني اغنى بلدان العالم .
والثقافة تحملها عالمية اللغة الاميركية . وفيما كانت اللغة الفرنسية في ذاكرة البعض رديفا مفضلا لتعبير الدبلوماسي , والمنافس الاخير على الساحة الدولية تراجعت اهميتها لصالح اللغة الانكليزي التي باتت تتصدر العبارة الدبلوماسية والقانونية ، كما تصدرت عالم العلم والاقتصاد منذ الحرب الكونية الثانية , حتى صارت نادرة جدا المعاهدات الاقليمية والدولية التي لا يوضع نصها بالانكليزية اصلا .
والقوة في العالم الاميركي , قد انتهت الحرب الباردة بتكريس تفوق اميركا العسكري في جميع المجالات وهو الذي كان واضحا حتى في ايام صعود الاتحاد السوفيتي في الولايات المتحدة هو القوة الوحيدة القادرة على نشر عنفوانها اين ما شاءت في العالم من دون تصدها الصعوبات اللوجستية والعوائق السياسة والقانونية . وحقيقة هذه الصادرة تجلت في استعصاء الحل في البوسنة قبل تدخل اميركي , كما في اماكن من احتمال استمرار الاحتلال العراقي للكويت سنين طويلة لو لم تقدم الولايات المتحدة على تبني عملية (عاصفة الصحراء) وقيادتها .
وفي مناطق نفوذ الخاصة ببلد ما , امثال تبيت والسينكيانغ، والشيشان واوكرانيا النسبة لروسيا , حتى ايرلندا الشمالية النسبة لبريطانيا تنظر سائر الدول بترقب الى واشنطن قبل المبادرة الى حملة سياسة او عسكرية في مناطق نفوذها . فما من عاصمة مثل واشنطن تحظى باتمام عواصم المدن البعيدة عنها وغير المجاورة لها ,بالرغم من بعدها الجغرافي عن مسرح المواجهات .
وباختصار , وحدها الولايات المتحدة قادرة على مخاطبة حقيقية العولمة المهنية في اخر القرن .
وقد جاءت العولمة الى الشعب الاميركي بمسؤولية لم يكن لاباء المؤسسون ليحسبوا لها حسابا لدى انشاء دولتهم المستقلة الصغيرة في القرن الثامن عشر . بيد ان التحدي كان انذاك حاملا تعابيرا تشير الى استحداث قيم عالمية (جديدة) لدولة اقتنع مؤسسوها ب ( نشوئها في كنف الحرية ) , وكرسوها في الدستور كما في الاوراق الفيدرالية وشأنهم شان الكسندر هيملتون في مقال نشرها في 21 تشرين الثاني ( نوفمبر) 1787 , فان رؤساء اميركا مضطرون اليوم الى تكوين صورة جامعة لدور الولايات المتحدة الاميركية في العالم , والعمل على تحقيقها : (وانا مؤمن بان اميركا سوف ترسخ القاعدة العريضة والمتينة لابنية اخرى لا تقل عنها عظمة وسوف تشكل هذه الصروح شواهد دائمة على نية كل من ادعى ان الحكومة الحرة لا تتطابق مع نظام المجتمع ).
واذا كانت الزعامة العالمية تذكر بسوابق عديدة في التاريخ فان مفهوم العولمة نفسه ليس جديد على الساحة . وكان توماس مان والمارشال قد شخصا القرن العشرين بتحولاته الاقتصادية والثقافية في الصورة التي باتت معروفة (القرية الكونية ) وحقيقة العولمة ماثلة لهم ولغيرهم بوضوح منذ عقود وكما لوحظ مؤخرا احد المؤرخين الأميركيين ( فقد ادى الانهيار المصرفي الاوروبي سنة 1931 الى طرد العمال من وظائفهم في غرب ووسط الولايات المتحدة . والاجتياح الياباني للصين 1940 ادى الى تجنيد الشباب الاميركي في وقت كانت الولايات المتحدة ما تزال رسمية في حالة سلم.
وبالفعل , فقد بات الطرف الاخر على الساحة الدولية وبعكس ما كان عليه الوضع في بداية القرن العشرين . يتأثر اكثر بكثير بما يحدث في اميركا , وكان برتولت برشت قد رسم في العشرينات ارتباط ماسي العتال في شانغهاي في بحثة عن لقمة العيش بقيمة السلع الزراعية في شوق شيكاغو وسعر الرز الصيني فيها. وجاءت حربان عالميتان لتكيل لمعظم مناطق العالم الدانية منها والنائية الصدمة تلو الصدمة اقتصاديا وعسكريا حتى غدا الزكام في اميركا يصيب الشرق الاوسط او جبال الاند في اميركا الجنوبية بالحمى الخبيثة .
لكن من القادر على اتخاذ القرارات التي تؤثر على الساحة العالمية ؟ فاذا افاد النظام الامم المتحدة مرارا وتكرارا عن عجز امام الازمات الدولية فان اصول الديمقراطية ما تزال مرتبطة بمبدأ يقضى بان (لا ضريبة من دون تمثيل سياسي ) وهذا المبدأ العريق الذي جاء نتيجة صراع طويل مع الحكومات المستبدة في القرون الوسطى يكرس حق الشعب برفضه دفع الضريبة للحكومات الا اذا كانت مسؤولة امامة عن طريق اختياره الحر لممثليه على راسها لكن العولمة رمت هذا المبدأ الاساسي في مهب الريح فالخيوط بين راي الانسان الفرد واتخاذ القرار على المستوى العالمي اوهنها تكاثر المسؤوليات الوسيطة غير المسؤولة امام الناس . والمواطن العادي غريب عن الساحة العالمية لا يفهم تعقيداتها ومصاعبها ولايسيطر عليها بشكل من الاشكال وقد ازدادت درجات انقطاع الحاكم عن المحكوم في العالم بسبب افتقار صنع القرار الى دقة والشفافية في نظام مالي تطغى عليها تحركات الرساميل الهائلة خارج اعتبار اي شخص او حكمة مؤسسة منتخبة او المسؤولية التي تتحملها قيادة الامور. فشد حبال المال بعيد كل البعد عن تأثير الفرد او طاقته . وقد زاد حجم الشركات المالية والصناعية العالمية العملاقة عن حجم الاقتصاديات الوطنية اضعافا مضاعفة فصار صوت الفرد الانتخابي هزيلا هذا اذا كان له صوت اصلا داخل نظام الامم المتحدة او خارجه .
وفي السياق السريع الذي تطورت فيه العولمة في السنوات الاخيرة .ماذا بقي للعرى التي تربط الانسان الفرد بالعالم الذي يزداد كل يوم وطأة على حياته وسبل عيشة ؟
ترتبط القنوات الاساسية للتمثيل العام والمسؤولية السياسة بالأمة الدولية (وقد تدرجت تسميتها باللغة العربية المتداولة بالدولة القومية ) وحكومات الامم والدول وحدها مخولة تقديم مصالح الشعب ومطالبة على الساحة الدولية .
وحتى اذا غضضنا النظر عن النية الرديئة التي تتحلى بها قوات التمثيل السياسي في دول كثيرة لا تتمتع بصوت يسمع او اثر يذكر على المستوى العالمي هذا يؤدي الى الاحساس الفردي والجماعي بالغربة واستيلاب في اكثرية بلدان العالم وقد بات الناس يشعرون عن قناعة وحق بان حياتهم مسيرة خارج مشيئتهم.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة