يتحدثون عن التأثيرات الأوروبية في الثقافة العربية ولا يترددون في نسبتها إلى الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، والحوادث التي أعقبتها. وحجتهم في ذلك أن الثورة المذكورة لم تأت فجأة ومن دون سابق إنذار، بل هي خلاصة مجهود كبير بذله مفكرون وأدباء ومسرحيون وفلاسفة حاربوا الجهل، وقاوموا الخرافة، ودعوا إلى العلم. وكان نجاحها انتصاراً لهذه العقول، مثلما كان انتصاراً للمقهورين والجياع.
ويقولون أن هذه التأثيرات التي جاءت طلائعها على يد نابليون عام 1798 في مصر إنما بدأت بظهور أشخاص من طراز رفاعة الطهطاوي ومحمد علي والخديوي اسماعيل وفرنسيس المراش وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وآخرين. وهؤلاء هم الذين تولوا التعريف بمبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة (إخاء، حرية، مساواة) في المنطقة العربية أولاً. ولم يسلموا من عداء التيار التقليدي المتطرف في حينه.
وعند هؤلاء فإن الثقافة العربية الحديثة بدأت في ذلك الحين وتوالت بظهور أدباء كبار أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود وآخرين. وقد يتلطفون فيذكرون شعراء المهجر وبعض مفكري الشام الذين درسوا في الجامعات الغربية أو عاشوا في دول الغرب سنوات طويلة. ولكنهم لا يذكرون أن هذه التأثيرات لم تطل إلا النخبة، وهي قلة قليلة في ذلك العهد، وجلها من أبناء الأسر المتنفذة أو الثرية.
ولم يخطر في بالهم أن شعارات الثورة تلك إنما بدأت على الأرض أولاً. فمد سكة حديد في مصر والشام والعراق مثلاً كان أبلغ من ترجمة عشرات الكتب لجان جاك روسو أو فولتير أو مونتسكيو. فقد جسدت حركتها المساواة الحقيقية بين الناس، وقربتهم إلى بعضهم، ومنحتهم حرية السفر والانتقال.
وفاتهم أن إنشاء خطوط الهاتف بين المدن البعيدة هو الذي جعل الناس يشعرون أنهم يعيشون في عالم جديد مترابط الأوصال. ولم ينتبهوا إلى أن نصب مضخات صغيرة على ضفاف الأنهار هو الذي مكن الفلاحين الفقراء من زيادة دخولهم، وحفزهم على إرسال أولادهم للمدارس والجامعات، بعد أن كانت حكراً على أبناء كبار الملاكين.
بل إن آلاف الطلبة والمعلمين لم يكونوا قادرين على مواصلة دراستهم في ذلك العهد لو لم تجد المطبعة طريقها إلى بلاد العرب.
إن التأثير الأهم الذي داهم الثقافة العربية التقليدية وجعلها تتراجع أمام الحداثة جاء عن طريق التقنية أولاً، وليس عن طريق النسخ القليلة من الكتب والمجلات الغربية. فقد وضعت الآلة روافد الثقافة هذه في متناول الجميع، وجعلتهم يدركون المعنى الحقيقي لشعارات الثورة الفرنسية تلك.
وحينما تغير الناس أصبحت البيئة العربية مهيأة لتقبل أجناس جديدة من الأدب والشعر والفلسفة والفن! وهي إذا ما أرادت أن تحدث نقلة جديدة فعليها أن تسلك الطريق نفسه، الذي سلكته أول مرة قبل قرنين من الزمان، لا أن تكتفي بترجمة نظريات تظهر كل يوم، دون ان تمس شغاف الحياة العربية من قريب أو بعيد.
محمد زكي ابراهيم
يتحدثون عن الثقافة
التعليقات مغلقة