نصوص الغياب

بهرين أوسو

السوق
آلاف الوجوه تعبر هذا السوق كل صباح، تعبق حبًا وألمًا ومئات الحكايات تسرد هنا على أبواب الصباح المشرع في ظل المدينة.
في هذا المكان، تجد ما لا يمكن أن تجده في أي مكان آخر على امتداد شوارع النسيان في المدينة. الكثير يمر هنا فقط ليشاهد أشكال النعم الموجودة على وجه الأرض.
كجنة الفردوس تراها وتدركها ولا تصلها، كل صباح يمر هنا حاملًا كل الألم يسأل هنا وهناك، كأنه يريد كل ما هنا ثم يرحل تاركًا كل أحلام أطفاله على حواف عربات الخضار وعلى سكاكين الجزارين. يسرع ليسعى كعصفور ترك فراخًا جائعةً في عش هو أقرب إلى اللاشيء، على أمل أن يعود بعد كدّ يوم، حاملًا بعضًا من عمره المتناثر على ضفاف أنهار الشقاء، ليأخذ أقل ما يمكن من الأمل إلى داره، هذا حال الكثير من بيوتات مدينتي، فيها الكثير من الأرواح التي تعيش على حافة الحياة.

غربة
رحل الجميع وبقيت هنا كشجرة، لم يعد لتبدل الفصول على مدارات الزمن المتوقف هنا أثر يذكر على أغصانها المثقلة بالشوق والحب.
شجرةٌ غادرها الربيع إلى الأبد.
شوقٌ إلى أيام الطفولة وتدافع الأرواح كل مساء على بوابة النوم العذب على ضفاف أنهار الحنان الأبوي، بات يسكن كل ذرات جسدي، وكل أنفاسي، وكل جنبات روحي المتمزقة بين شتات المدائن على أصوات صرخات القهر في وطني.
واستحالت الحياة…!
غادر الجميع هربًا من شظايا الحرب المترامية على جنبات الوطن، حاملين معهم طفولتي وصباي وشبابي وكل الأحلام.
تركوني هنا وحيدة في مدينة غريبة، غربة روحي.
لم تعد الأماكن تشبه نفسها، ولم يعد لنسمات الصباح رائحة أبي، وشوق أمي، وضحكات شقيقاتي، في بيوتات المدينة.
احتل الشوق والألم مدينتي، وعلى أنقاض روحي هنا بنت الغربة مدائن من خوف وطرقات من حنين.

قامشلي
مدينتي الصغيرة النائمة على ضفاف نهرٍ من أحزان غادرها أبناؤها إلى جهات شتى حاملين في قلوبهم حبًا وألمًا.
أما من بقي هنا فيلاحظ كل صباح كيف تصحو مدينتي الجميلة على أنين قلبها الكبير وهي تكفكف دموع الغربة هنا على من رحل ومن بقي.
بات يسكنها الضباب وغمائم سوداء من ألم. وجوه غريبة لم تعرفهم مدينتي يومًا ما، باتوا اليوم يجولون في شوارعها.
في كل حي من أحياء قامشلو عوائل هاربة من رحى الحرب تسكن أحضان المدينة بحثًا عن الأمان.
تحتضنهم قامشلو، لكن لم تتمكن يومًا من أن تحميهم أو تحمي أبناءها من موت يتجول عبر نسمات الهواء.
تشتعل مدفأة الشتاء لتأكل عائلة نازحة بأكملها لتغدو أجسادهم الهاربة حطبًا لشتاءٍ غريب في وطنٍ غريب.
*بهرين أوسو قاصة وشاعرة كردية سورية، من أعمالها القصصية: «شيء من أبي..!»

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة