التنوع البنائي وتجليات الذات في(قيامة بغداد)

علوان السلمان

…ما بين المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية تكمن رغبة التعبير الابداعي الفاعلة في تحريك الساكن الفكري والوجودي من الاشياء عبر المشاهد التي تحققها التجربة الابداعية المكتنزة بالرؤى والمضامين الانسانية..
وباستدعاء النص السردي(قيامة بغداد)..الذي يعد من جنس اليوميات او السيرة والذي انتجته ذهنية فاعلة ومتفاعلة والوقع المأزوم الذي يشعر فيه الانسان بالاغتراب المجتمعي والمكاني..عبر مقاطعه المشهدية(جريدة الجمهورية/بيت الحكمة/عاد الحق/القوات الاميركية/ايام بلا ذاكرة/ الفتنة الطائفية/ارامل وعازبات/ ليل بغداد/قبر امي/الهجرة ام الموت المعلن؟)..المضافة الى نصوص موازية انحصرت في مقدمة الساردة ورسائل حميد المطبعي السبع ونص(بريمر الحاكم بامر الله)للروائي محمد الغربي عمران.. الذي نسجت عوالمه بوحدة موضوعية وتكامل درامي وسرد فني.. انامل القاصة والروائية عالية طالب الذي يجرنا لتحقيق مقاربة له مستندة الى معايير ومقاييس تنصب على الجوانب الدلالية والشكلية والبصرية لتحقيق قراءة موضوعية لعوالمه ومكوناته البنائية..كونه مغامرة تجريبية رائية..متجاوزة ببنائها السردي المشحون بالايحاءات الخالقة لمشاهدها التخييلية ومواقفها الانسانية..
(تغافلت عن جزعي وخوفي ورعبي..واظهرت بعضا من تماسك حاولت ان يبدو طبيعيا وانا احثهم للاسراع بنقل ما يحتاجونه الى السيارة..أصوات الموت تقترب منا رويدا رويدا وكأنها تسابقنا في تهيئة ما ينتظرنا..امتلأ رأسي بالاصوات الصاخبة..صراخ اولادي..تشنج صوت زوجي..زمجرة جدران بيتي..اصطكاك نوافذه..حركة الغبار المتتابع مع كل عصف قنابل متتالية..كل الاصوات تتراكض..كلها تريد ان تجد لها مكانا في الفضاء حولي..تدخل الى عقلي فيما نحن نتسابق للخروج من دائرة اعرف انها ستطبق علينا لا محالة..
لم افكر كثيرا في هذه المفارقة الهائلة بين مفهومي الدخول والخروج التي لو اصغيت الى حقيقتها لارجعت كل ما حزمته وما أجبرتهم على الاسراع بترتيبه وجلسنا كلنا داخل تحدي المواجهة غير المجدية وقتها..تناوب اولادي على الحركة السريعة فيما وقف زوجي يرقبهم بنفاد صبر..يحاولون ان يتفادوا النظر اليه خشية ان تفلت منهم آخر مقاومة اختزنوها حتى لا يزداد الموقف تأزما اكثر مما هو عليه.. كنت ارقبهم يرصدونه اينما تحرك بطريقة حزينة تشي بخوفهم من ان لا يرونه ثانية..) ص22
فالنص ينصب في خانة الواقعية التي تتلبسها الساردة في بعض مفاصلها نوع من الايهام لكسر رتابة التوقع باعتماد مقاربات اجتماعية مع توظيف امكانات التشكيل الذي تمتلكه من تفاصيل الحياة كي تحقق الانتقال من التسجيلية الى الرؤية الفنية بلغة تصنع الغرائبي من المألوف وتجمعه في بؤرة عالمها السردي المليء بالحركة والحيوية المتدفقة..
فالنص يكرس دلالات انسانية عميقة في حالة صيرورة دائمة ونمو من الداخل يكشف عن حركة زمنية ومتغيرات شيئية من خلال التحكم بجزئيات المحكي ووضعه تحت سلطة المتخيل الذي يبني تصوراته على النسق القيمي..فضلا عن انفتاحه على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان ـ الوعاء الفكري للذاكرة ـ والحاضنة للفعل السردي بمشاهده المتوالدة من بعضها البعض بمخيلة مكتظة بالمعطيات الحسية التي تتفاعل معها الساردة بوعي كلي ولغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها بايجاز وتكثيف جملي..ابتداء من العنوان المفتاح التأويلي والايقونة الدلالية التي تستجلي مكامن النص لتحقيق دورها(التنبيهي والايحائي والاختزالي) فتسهم في فك مغاليقه كونه دلالة منتزعة من مكنوناته لتحقيق البعد الفكري..
(الايام تمر من دون ان أكلف نفسي عناء النظر الى التقويم.. وعدنا الى افتقاد الكهرباء وشحة الماء والوقود وابسط الخدمات..وبرغم ذلك عاد اولادي الى مدارسهم وكلياتهم وانا اجلس في بيتي حزينة على وطني الذي يتآكل في الضمائر..وعلى زملائي الذين تتقاذفهم الامواج والمصالح والبحث عن لقمة العيش..وعلى نفسي التي هادنت قوتها لتصغي لصوت عاطفة الامومة التي طالبتها بالبقاء على قيد الحياة من اجل اطفالها..
أعرف انني لو استمرت مقاومتي لفقدت حياتي ببساطة لكنني اعرف ايضا ان الحياة وسط الاستلابات لا تسمى حياة بل هي اشبه بالضحك على النفس ليس اكثر..وكان لابد لي ان اشعر بانني موجودة على خارطة الاشياء وان اختار طريقا يرشدني لمستقبل لا اتبينه الآن بوضوح..شغلت نفسي بالعمل في صحف اشترطت ان لا تكون موالية للاحتلال..ولكنني كنت اتركها تباعا بعد ان تكبر الشائعات حولها..من انها تتلقى تمويلات من جهات متعددة واغلبها مجهول لدينا..) ص105..
فالخطاب يعلن عن تجليات الذات وصيرورتها من خلال افراز الوعي الجدلي القائم على قطبي التقنية والجمالية بلغة ايحائية اللفظ..متفجرة الدلالة المرتكزة على خصوبة المعنى..عبر تقنية الحوار بشقيه الذاتي(المنولوجي) الذي هو حوار الذات والنفس..والحوار الموضوعي(الديالوجي) الذي هو حوار الشخوص التي تغيب صوت الراوي العليم وتكشف عما في داخلها وهي تتحدث من عمق وضعها الانساني المأزوم..(أتصفح الفناء الخارجي على الضوء الضعيف المرسل من الهاتف..تتحول الاشياء حولي الى هياكل غريبة..بعضها يأخذ شكل رجل ما بقناع اسود وبعضها يتخذ هيئة سلاح مصوب الى جسدي..اتلفت برعب واقترب من البوابة التي خرجت منها وامسح عيني بقسوة واحادث نفسي:
كفاك تخيلات..ليس هناك من احد..) ص177..
لذا فهي تتحرك في امكنة مجردة..تفعل فعلها في الشخصية التي ما تفتأ تحتدم بالتمرد والهرب الى اماكن تحصل فيها على حريتها التي هي(وعي الضرورة)..بل هي تعيش صيرورتها وسيرورتها في امكنة وبيئة لها دلالاتها..لذا فالساردة تتنفس صراعاتها عبر ثنائيات متناقضة تعبر عن نسق العلاقات الاجتماعية والوجود الاجتماعي والافكار..فتقيم صراعا عبر حوار داخلي..تأملي بخطاب تتداخل فيه السردية ببنية درامية متنامية..اضافة الى معالجتها شكلا من اشكال الاسقاط النفسي..مع محاولة اضفاء فسحة من الترميز وهي تصور هواجس شخوصها الداخلية..مع تركيزها على الجوانب المعتمة في الانسان الذي يبرز كوحدة اساسية بتكنيك يكشف عن نفسه من خلال رحلتها معه..
(في واحد من شوارع(حيفا) أقسمت صديقتي التي تسكن في احدى عماراتها انها رأت احد الجنود الاميركان وقد ضل طريقه بين ممرات الابنية فوجد نفسه وحيدا وبعيدا عن رفاقه..فيما اصوات الاطلاقات تزمجر فوق المنطقة وهي تشي بمواجهة تحصل..وقف ذلك الجندي مرتبكا..يرتجف..وبدأ بالبكاء جامدا كالتمثال.. وضحكت صديقتي وهي تقول لقد تقدم نحوه احد الرجال ممن يطلقون النار على الاميركان وقاده بنفسه بعد ان رثى لبكائه..قاده الى زقاق يوصله الى رفاقه ثم عاد مرة اخرى ليتخذ موقعه ويشارك في القتال ضد من يجوبون منطقته منهم..) ص130..
فالنص بايحاءاته التصويرية الحكائية وعمقه الدلالي يكشف عن مكنون الذات اتجاه الذات الجمعي الآخر ببوح وجداني منطلق من مرجعيات فكرية وروحية اسهمت في اتساع عوالم النص ومشاهده المنصهرة في بوتقة تراكيبه الجملية في السياق والمواجهة الدلالية وفق دوافع نفسية تتفاعل عناصرها الفنية والتجربة الذاتية للتعبير عن الحالة الذهنية والاستقرار في الادراك الحسي لما يحمله من دلالات سيميائية عبر دوال متلاحقة.. لتحقيق الاثر الكلي على حد تعبير ادجار الن بو..مع الاحتفاظ بوحدة موضوعية سردية لاتخلو من غرائبية تتناسب والموقف الفكري..الواقعي.. وانعكاساته الوجدانية..لذا ففضاء النص يبرز المعنى الحدثي الذي يمنحه ديمومة تحرك المخيلة فتفجر مخزونات المستهلك(المتلقي) لانتاج وتوليد المعاني والدلالات من المشاهد التي تؤسسها الساردة والتي تقوم على الفنطازيا التي هي خيال رؤيوي على حد تعبير دانتي..باعتماد الشخصية ذات الطبيعة الشائكة في عمقها النفسي..المليئة بطموحات الذات الانسانية الحالمة التي تكتشفها من خلال الحوار الذاتي الذي يتم الانتقال اليه بتلقائية ممزوجة بالسرد مختصرة المسافات الفاصلة بين الازمان(زمن السرد وزمن القص) كون الشخصية تروي الحدث لحظة حدوثه..
وبذلك قدمت الساردة نصوصا تتسم بالوعي الفكري من خلال موقف واع لمعطيات الزمن السابحة داخل أطر دلالية تنحصر في(الذاتي والتاريخي والكوني الانساني..) ومبني على عالمين مكانيين:الذاكرة والواقع بموجداته ومن خلالهما تتشكل حركة التجاذب والتنافر بين الذات والموضوع عبر جمل تتنوع اشكالها مع تجاوزها المعايير المتداولة..وتميزها بالدفق الخيالي والغرائبي والمكنون السردي الذي يكشف عن اغتراب الذات بتوظيف الفنون الحسية والبصرية والمكانية بلغة تشكل وسيلة وغاية في حد ذاتها..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة