دوران كاستييف يستعيد الظاهر بيبرس في معرضه بالقاهرة
شريف الشافعي
استعاد الفنان الكازاخستاني دوران كاستييف في معرضه التشكيلي بالقاهرة أجواء المعارك التاريخية البارزة والسير والملاحم الشعبية الشائعة في الثقافة العربية، مقدما لوحات تحفل بالدراما وتمزج بين الحقيقة والخيال.
حين ينهل الفن من روافد التاريخ الخصيبة، فإنه لا يكتفي باستحضار الروايات الرسمية المكتوبة والوقائع المدوّنة والموثقة، لكنه ينفتح كذلك على الوجدان الجمعي العام والثقافة الشفاهية الموروثة الحافلة بالأساطير والأحداث المتخيلة، وهذا ما فعله الفنان الكازاخستاني دوران كاستييف في معرضه التشكيلي الأخير بالقاهرة، وقدم بفرشاته قراءة بصرية حركية للمعارك التاريخية الشهيرة التي قام بها الظاهر بيبرس وغيره من السلاطين والقادة، في ضوء السير والملاحم الشعبية التي تروي تفاصيل هذه البطولات.
بمزيج سحري بين أبجديات الانطباعية والتعبيرية والواقعية، تأتي لوحات التشكيلي الكازاخستاني دوران كاستييف في معرضه الأخير «الرُحّل والسهوب الكازاخية» بكلية الفنون الجميلة في حي الزمالك بالقاهرة (19-20 يونيو/حزيران)، وهو ثمرة تعاون بين سفارة كازاخستان بمصر وجامعة حلوان المصرية.
تنبني فلسفة المعرض على التقصي العميق لأحداث التاريخ وإحداثيات الجغرافيا في آن واحد، فاللوحات تقدم بانوراما تخيلية مصورة للمعارك والملاحم البارزة، خصوصا التي خاضها السلطان الظاهر بيبرس ذو الأصول الكازاخستانية، والتي استلهمتها السير الشعبية العربية الشهيرة، وعلى رأسها «سيرة الظاهر» بما فيها من قصص وأساطير.
ترسم لوحات المعرض ذات الألوان الحية النابضة خرائط مكانية متعددة للبيئات المحلية، الصحراوية والمدنية، التي دارت على أرضها الأحداث المسرودة بلغة الألوان، وتعج الأعمال الإبداعية بالحركة والانسيابية، مترصدة الأحداث الواقعية والأسطورية بصيغة درامية تتسق مع مضمونها الحكائي.
يتجلى ثراء تجربة دوران كاستييف التشكيلية في تلك القدرة على استنطاق جوهر الجمال والحقيقة، بغض النظر عن كون الوقائع التي تجسدها الصور حدثت بالفعل أو لم تحدث، فالفنان شغوف بمفهوم البطولة الإنسانية بمعناها المجرد، والانسجام بين المشاعر البشرية وتجليات الطبيعة الخارجية.
تخلق لوحات دوران كاستييف حياة موازية كاملة، فيها من المعارك الحربية والصراعات والبطولات، وفيها أيضا الاجتماعيات بما تشمله من لقاءات البشر في البيوت والأسواق ومجالس العشق تحت ضوء القمر.
الانفعالات الفياضة، وملامح الوجوه الحساسة، والقسمات التي تعبر عن البهجة أو الغضب، والتفاعلات والحوارات المتبادلة بين البشر وسائر المخلوقات والكائنات من حيوانات ونباتات وغيرها، هي السمة اللافتة في تجربة دوران كاستييف، فهو لا يقدم المعارك والملاحم (مجال المعرض الأبرز) بوصفها ضربات سيوف ونزاعات عصبية، لكنه ينقل توترات ونبضات إنسانية في المقام الأول.
الظاهر بيبرس على حصانه، من اللوحات المميزة التي تتوسط معرض دوران كاستييف، وفيها تتضح السمات الجمالية لأعمال الفنان، فهو لا يريد التعبير عن البطولة بشرحها أو الحكي عنها، إنما يسعى إلى تمثيل تلك البطولة كما هي، بتقريب كينونتها إلى التفهم والاستيعاب، بآليات بسيطة.
الفارس والحصان والطبيعة، في هذه اللوحة، كيان واحد متسق، مصوغ من الجموح والفوران والانطلاق والشموخ والتحدي، فالبطولة هي توافق الصفات النبيلة، والتحرك الغاضب من أجل إحقاق الحق، ونصرة المستضعفين، مثلما تسهب السيرة الشعبية في الشرح.
والظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي (1223-1277)، الذي جرى تتويجه في العام 1260 هو «أبوالفتوح»، سلطان مصر والشام، رابع سلاطين الدولة المملوكية ومؤسسها الفعلي، وكان مملوكا يباع في أسواق بغداد والشام، ثم حقق خلال حياته العديد من الانتصارات ضد الصليبيين والمغول منها معركة المنصورة ومعركة عين جالوت.
يعود بيبرس في أصوله إلى كازاخستان (القبجاق سابقا)، وتميز بدهائه العسكري والدبلوماسي وقدرته على الحشد والتنظيم، وكان له دور كبير في تغيير الخارطة السياسية والعسكرية في منطقة البحر المتوسط.
أما السيرة الشعبية الظاهرية «سيرة الظاهر بيبرس» فهي حكاية خيالية طويلة تروي حياة السلطان المملوكي وأعماله الموصوفة بالبطولية، خصوصا تصديه للمغول والصليبيين، وجرى تأليف هذه الملحمة التي يختلط فيها الواقع بالخيال في العصر المملوكي، وتطورت ونمت عبر السنين، ووصلت إلى شكلها النهائي في العهد العثماني.
وتركز السيرة الشعبية الظاهرية على أمور أخرى إنسانية وشخصية، أخذت أبعادا أسطورية، منها تفقده أحوال الناس، وإطعامه آلاف الفقراء والمساكين في رمضان، وتواضعه مع الجنود ومشاركته لهم في حفر الخنادق وجر المنجنيقات ونقل الأحجار، بما أكسبه حب الناس، فأطلقوا عليه ألقابا عديدة، منها «أبوالفقراء» و»أسد مصر».
في لوحة أخرى بمعرض الفنان الكازاخستاني دوران كاستييف، يصوّر بورتريه الظاهر بيبرس في حالة انسجام ذاتي وصفاء ذهني وروحي، وهو يقبض على سيفه متأهبا لانطلاقة جديدة تحتشد لها ملامحه المتحفزة وترنو إليها عيناه اللامعتان، وفي الخلفية مآذن المدينة وقلاعها، وخيولها التي تلبي النداء وتأتمر بتعاليم القائد.
يقدم الفنان دوران كاستييف في كثير من لوحاته كائنات ورموزا غرائبية وأسطورية، بما يتماشى مع أجواء السير والملاحم التي يرويها، منها الذئاب المحلقة في الفضاء، ووجوه الملائكة والشياطين ذات الأجساد البشرية، والنساء اللاتي يتخذن هيئات الطيور، والمخلوقات المنقرضة التي تعود إلى الحياة من جديد في تشكيلات مغايرة.
يبدو دوران كاستييف فنانا بارعا في قراءة المسكوت عنه في صفحات المعارك الكبرى والبطولات الخارقة والأساطير الموروثة، وقد استطاع أن يدرك أن الحياة الحقيقية هي التفاصيل الصغيرة لدى العاديين من البشر.