صلاح حسن
«يبدو أننا لن نتوقف عن التفكير بكلكامش»- هذا ما قاله أحد النقاد الهولنديين عند صدور ترجمة جديدة لملحمة كلكامش قبل أربع سنوات في أمستردام. وأعتقد أنه على حق تماماً، فقد صدر حتى الآن أكثر من أربعمئة كتاب باللغات الأجنبية عن الملحمة، بالإضافة إلى عدد من الكتب باللغة العربية. لكن كتاب الدكتور صلاح نيازي الشاعر والمترجم «فن الشعر في ملحمة كلكامش» الصادر عن دار المدى هو شيء مختلف تماماً ويبحث في قضايا لم تتناولها الدراسات العربية التي بحثت في ملحمة كلكامش. ليس هذا وحده، بل إن طريقته في التحليل غير مسبوقة في الثقافة العربية ما يجعل كتابه مختلفاً وجديداً وشيقاً إلى درجة كبيرة. كيف تعمل الحواس في الملحمة، ما هو تأثير الصمت فيها، وهل رفض كلكامش الخلود حينما رأى أوتو – نبشتم؟
في المقدمة الوافية يشير نيازي إلى أغلب النقاد والمترجمين الذين كانت الملحمة مادة خصبة بين أيديهم ويوضح بشكل تفصيلي طريقة كل واحد منهم في نظرته إلى الملحمة وطبيعة البحوث التي قدموها في هذا الصدد. وقد بدت المقدمة لوحدها أنطولوجيا قصيرة في غاية الأهمية لمن يريد أن يبحث في ملحمة كلكامش في المستقبل.
يتألف الكتاب من عشرة فصول، كل فصوله تبحث في تقنيات كتابة الملحمة سواء كانت شعرية أو مسرحية أو فلسفية أو أسطورية. ولو صح افتراض النقاد الأجانب بأن الملحمة عمل مسرحي فإننا نكون أمام أول عرض مسرحي في تاريخ الأدب.
يذكر تمبل، مترجم الملحمة إلى الإنكليزية، أنه كان يشعر بأنه يتعامل مع نص درامي مقدس. ويقول نيازي وهو بصدد معالجة تقنية الدراما في الملحمة «تبدأ الملحمة بالراوية. الراوية الذي يمهد لظهور بطل الملحمة بمقدمة احتفالية أو بأنشودة تسبيح. يذكر لنا صفات البطل ولكنه لا يذكر اسمه. من تلك الصفات، التي يحتفل بها الراوية ويدعو القوم للتغني بذكرى صاحبها، أنه رأى كل شيء وعرف جميع الأشياء»، وهو ما يسمى في المسرح بالمشهد الاستهلالي الذي يمهد لمجريات الحدث الدرامي الذي سيقع بعد قليل. ويضيف الدكتور نيازي «وحتى يتأكد السامع أو القارئ مما يسرده الراوية، فإنه يقرر أن كل ما مر به البطل من تجارب فهو مدون على الحجر، أي يمكن الرجوع إليه وقراءته (فنقش في نصب من الحجر كل ما عاناه وخبره) وبذكر الحجر المنقوش ينتقل بنا الراوية انتقالة حضارية مهمة، حيث أوصلنا إلى مرحلة البناء أي الاستقرار البشري في المدن وهي لا ريب انتقالة من العقلية الشفاهية إلى العقلية التدوينية». هذه هي إذن صفات الشخص الأول في المسرحية، وهو كلكامش بطبيعة الحال.
تقنية الصمت ودلالة التكرار
وعن تقنية الصمت في الملحمة ورحلة كلكامش وأنكيدو لقتل خمبابا يتساءل الدكتور نيازي: لماذا أمعن الراوية بتفاصيل الرحلة وبالساعات الكثيرة العدد؟ فهذه الرحلة كأية رحلة أخرى في الملحمة صامتة وخالية من الحوار. يقول نيازي «هذا الصمت يعطي أهمية إضافية فنية للمسافة والزمن في آن واحد. وهو في عين الوقت يصور لنا كم كان الرجلان متعبين. إذن كيف سيحاربان خمبابا المارد»، وبالتالي كيف سينتصران عليه؟ تقنية التكرار في الملحمة، التي لم ينشغل النقاد بها كثيراً، وحتى طه باقر نفسه، رغم أنها من أوضح معالمها وربما من أهم خصائصها الفنية، يعيرها الدكتور صلاح نيازي الكثير من الأهمية ويستعين برأي موران الذي يقول إن البناء الأساسي في الملحمة إنما يتمفصل بالتكرار، تكرار المدد الزمنية المتصلة بالرموز.
المدد الزمنية ثلاث:
ستة أيام وسبع ليال، رموز الاستحمام وتغيير الملابس، رموز للتحول الداخلي كما يشرح ذلك موران نفسه حين يصف المدة الزمنية الأولى عند اتصال أنكيدو بالمومس لمدة سبعة أيام وسبع ليال بتواصل.
أما المدة الزمنية الثانية فتتكرر حينما يرفض كلكامش أن يستحم أو يلبس ملابس البشر حينما كان يتفجع على موت صديقه أنكيدو.
والثالثة حين يطلب أوتو – نبشتم من كلكامش أن لا ينام سبعة أيام وسبع ليال حتى يعطيه سر الخلود.
يعلق الدكتور نيازي على ذلك قائلاً: «ليس التكرار في ملحمة كلكامش مجرد عادة كلامية كما ظن طه باقر، ويبعث على السأم والملل ولا يقتصر على رقم زمني، سبعة، كما ظن موران، ولا فائضاً عن الحاجة، فحذف منه ستيفن ما شاء في ترجمته حسب ذوقه الشخصي. التكرار كأية حيلة فنية لا بد من استقرائها والتدقيق فيها، لا بد من تعيين ما موقعه وما توقيته وما مكانه وما ظروفه». وما دام التوقيت يختلف والمكان والظروف، تتعدد دلالات التكرار بتعدد تلك الاختلافات. ويقوم نيازي بتقديم أمثلة على ذلك من أجزاء كثيرة من الملحمة كل مثل له علاقة بالتكرار ولكن يختلف من حيث الزمان والمكان وطبيعة الحدث الذي يعالجه. في الفصل الذي خصصه الدكتور نيازي للتشبيه في الملحمة، وهو ما لم يدرسه أي ناقد كما يقول، جملة طريفة تصف هذا العمل الشاق «ما من ناقد – على حد علمي – حاول دراسة هذه الملحمة من حيث تقنياتها التأليفية دراسة نقدية تشريحية، تلك التقنيات التي ما إن يمر بها المرء حتى يطير النوم من عينيه». هذه الجملة تلخص بالفعل العمل الذي قام به الدكتور نيازي الذي نبش كل شيء في الملحمة وقلبه على أكثر من وجه وأشبعه تحليلاً.
كيف يختلف التشبيه في ملحمة كلكامش؟ يأخذ نيازي أمثلة من الملحمة ويقيم عليها مقارناته وتحليلاته مثل وصف كلكامش في بداية الملحمة: إنه موجة طوفان عاتية تحطم حتى جدران الحجر. يقول نيازي: «أولاً خص الشاعر الموجة بموجة طوفانية لا غيرها، وخص الجدران بالجدران الحجرية لا غيرها. بهذه الحيلة الفنية البارعة في تخصيص الأشياء قرب الشاعر المعلومة الشعرية من اليقين والواقع، مبعداً إياها في الوقت نفسه من الخيال. لكن قبل ذلك كان التأكيد في الأبيات السابقة على مآثر كلكامش في بناء أسوار أوروك التي «تومض كالبرونز» وعلى الحجر المفخور وعلى الأسس القوية للبناء». وفي مثال آخر يصف راوية الملحمة أنكيدو قبل أن يصل إلى مدينة أوروك بالقول: يكسو جسمه الشعر/ وشعر رأسه كشعر المرأة/ ونمت فروع شعر رأسه جدائل كشعر نصايا. يعلق نيازي على ذلك بالقول إن هذه صورة أنكيدو قبل أن يدخل في مرحلة التحضر.
تأتي أهمية هذا التشبيه من الترميز للتوحش وللمرحلة الرعوية، بالشعر المتروك على طبيعته، لا سيما إذا قارنا تلك الجدائل بشعر كلكامش وهو ابن المدينة حينما عاد إلى أوروك بعد قتل العفريت خمبابا في غابة الأرز: غسل كلكامش شعره الطويل وصقل سلاحه/ وأرسل جدائل شعره على كتفيه. إن كلمة غسل وصقل وأرسل تدل على أفعال إرادية بعكس شعر أنكيدو.
ثمة إشارتان مهمتان في هذا الكتاب تبدوان من حيث التحليل جديدتين للغاية فيما يتعلق بملحمة كلكامش سلط الدكتور نيازي عليهما الضوء، الأولى رثاء كلكامش صديقه أنكيدو الذي مات دون أن يقوم كلكامش بدفنه لمدة ستة أيام وسبع ليال، هذا الرثاء كما يعتقد نيازي غير موجه إلى أنكيدو بقدر توجهه إلى كلكامش نفسه. إنه بذلك يرثي نفسه بعد أن عرف أنه ميت لا محالة. والإشارة الثانية، وهي متعلقة بالإشارة الأولى على أية حال، حين شاهد كلكامش أوتو – نبشتم الرجل الذي حصل على الخلود ممدداً على ظهره ولا يقوى على شيء.. لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يمارس الجنس، ها أنا أنظر إليك يا أوتو – نبشتم/ أنت مثلي، لا أجدك تختلف عني/ أنت مثلي ولست غريباً أبداً/ تصورتك محارباً قوياً/ تصورتك كالبطل على أهبة القتال/ فإذا بي أجدك ضعيفاً ممدداً على ظهرك. هذه الصورة البائسة عن الخلود لم تكن تخطر بخيال كلكامش، لذلك أدرك إنه لم يكن يبحث عن هذا الخلود البارد فعاد إلى أوروك خائباً.