د. سليم كاطع علي
تعد التجربة البرلمانية العراقية التي شهدها العراق بعد إقرار الدستور الدائم عام 2005 أحدى أهم التجارب الديمقراطية في المنطقة، بعد مرحلة طويلة من الحكم الشمولي الفردي القائم على منهجية الحزب الواحد وسيطرته على مؤسسات الدولة كافة لمدة تزيد على الثلاثين عاماً. وعلى الرغم من أن هذه التجربة لم تأت أو تولد نتيجة ظروف تأريخية متراكمة عبر مراحل زمنية كما هو الحال في التجارب البرلمانية الأخرى، إلا أنها أستطاعت في ظل الظروف والتحديات الكبيرة التي شهدها العراق من أن تتحول إلى تجربة برلمانية ديمقراطية وليدة وتمثل تحولاً ديمقراطياً سيأخذ مداه الزمني لكي يتبلور إلى تجربة مؤثرة وفعالة مقارنة بتجارب دول المنطقة.
ولا شك فأن عملية تطوير التجربة البرلمانية العراقية تتطلب من جميع القائمين على العملية السياسية: العمل على إرساء قواعد العمل الديمقراطي في التعددية السياسية والحزبية، والتمسك بالقيم والمبادئ الديمقراطية، والتركيز على مبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ التداول السلمي للسلطة من خلال تطوير وتحديث التشريعات الوطنية، ومراجعة الإطار القانوني والتشريعي والسياسي للعملية السياسية والديمقراطية برمتها.
وفي هذا الإطار، تعد الانتخابات البرلمانية العراقية لعام 2018 ذات أهمية مختلفة عن سابقاتها، وتكمن تلك الأهمية في كونها تمثل الحدث الأبرز بعد هزيمة تنظيم داعش الإرهابي واستكمالا للنصر الاستراتيجي الذي تحقق عليه. فضلاً عن طبيعة المشهد السياسي العراقي وحساسية المرحلة القادمة وما ستفرزه من تحالفات سياسية سيكون لها تأثيرها الكبير على الواقع العراقي في ظل بيئة إقليمية ودولية مضطربة وغير مستقرة، مما يتطلب الأستمرار في مواجهة الخلايا النائمة لذلك التنظيم فكرياً وعقائدياً للحيلولة دون ظهوره وتمدده مرة أخرى، إلى جانب العمل على إنتاج حكومة عراقية مستقرة تبدأ مرحلة الإعمار والبناء السياسي ومواجهة تحديات المرحلة القادمة، وهو ما يشكل أحدى التحديات الكبيرة التي ستتولاها الحكومة القادمة.
إن حالة الإنقسام الكبير الذي شهدت الانتخابات البرلمانية العراقية للعديد من القوى والأحزاب السياسية مقارنة بالسنوات السابقة، لم يقتصر على طرف دون آخر، بل شمل المكونات الثلاث الكبرى في العراق: الشيعة، السنة، والأكراد. ولعل أسباب الأنقسام قد تعود إلى الإختلاف في المنهج والأسس والمبادئ مقارنة بالدورات الانتخابية السابقة، ويظهر ذلك جلياً في العناصر السياسية المكونة للتحالفات الموجودة حالياً.
إذ شهدت القوى الشيعية إنقساماً أكثر حدة من ذي قبل إلى أجنحة متعددة أبرزها: تحالف النصر، تحالف الفتح، تحالف سائرون، ائتلاف دولة القانون، ائتلاف الحكمة والتي ضمت العديد من الأحزاب والشخصيات الأخرى. فضلاً عن القوى السنية الرئيسة التي إنقسمت إلى أكثر من (50) حزباً وهو ما يؤشر عمق الخلاف بين توجهات كبار ممثلي السنة في العراق. أما على صعيد المكون الكُردي، فـالإستفتاء على إنفصال إقليم كُردستان وما رافقه من توترات في الداخل الكُردي جعلت القوى الكُردية على وشك أن تخسر دورها كونها (قوة مرجحة) في البرلمان العراقي، مما أفقد الأكراد وحدتهم نسبياً داخل البرلمان العراقي وقلل من دورهم، ومما يؤكد ذلك إنقسام الكُرد إلى العديد من الأحزاب والحركات، مما أدى إلى دخول الكُرد في الانتخابات البرلمانية لعام 2018 وهم في وضع يكاد يكون الأسوء منذ عام 2003.
وعلى الرغم من نسبة مشاركة الناخبين الضعيفة التي وصلت إلى نسبة (44,52%) مقارنة بنسبة المشاركة في الدورات الانتخابية السابقة، ففي عام 2005، كانت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية 76,4% من إجمالي الناخبين المسجلين، أما في عام في 2010، فكانت نسبة المشاركة في الانتخابات 62,4%. وفي عام 2014، تدنت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية إلى ما يقارب الـ60% .
فأن محاولة إستقراء المعطيات لرسم صورة أولية لشكل البرلمان العراقي القادم ومكوناته تدفعنا إلى القول: بأن تشتت القوى السياسية وتفرق الشخصيات التي تحظى بدعم شعبي سيؤدي إلى إستبعاد أن تفوز إحدى القوائم الانتخابية بنسبة عالية من الأصوات تفوق القوائم المشاركة الأخرى، مما يجعلها بوضع أقوى من القوائم المتنافسة الأخرى. ففي ظل الإنقسام الذي تشهده الساحة السياسية، وخيبة الآمل التي يعيشها الناخب العراقي، فأن حصول القوائم المشاركة في الانتخابات سيما الكبيرة منها على مقاعد متقاربة هو ماحدث فعلا.
وبناء على ما تقدم، نجد أن الإنقسام السائد في الساحة السياسية في الانتخابات سينعكس على شكل البرلمان العراقي القادم، ولكن بصورة أقل مما تشهده الحلبة الانتخابية، ذلك أن بعض الانقسامات في الساحة السياسية جاءت لأسباب إنتخابية وليس لأسباب سياسية، فبعض القوى السياسية أرتأت الدخول إلى المعترك الانتخابي وهي منقسمة إلى أكثر من قائمة، وهذا من شأنه أن يرفع من أداء هذه القوى في الانتخابات، ويحول دون تشتت الأصوات في داخل القائمة الواحدة. ولكن هذا من شأنه ايضاً الحيلولة دون قيام حكومة الأغلبية، ولذا فشكل البرلمان العراقي سيفرض تشكيل حكومة توافقية تتشكل من تحالف أكثر من قائمة انتخابية.
وهو ما يشير إلى أن صراع الكتلة الأكبر سيكون محتدم جداً في داخل القبة البرلمانية، وفي هذا دلالة على أن تشكيل الحكومة القادمة لن يكون مرناً وقابلاً للتحقق خلال مدة زمنية قصيرة، وإن تشكيل الحكومة سيتطلب تحالف ثلاثة قوائم انتخابية أو أكثر، وهو ما يؤدي بجميع القوائم إلى تقديم تنازلات أكثر من أجل الوصول إلى التوافق الذي يمكنهم من تشكيل الكتلة الأكبر، لذا فإن البرامج الانتخابية التي تتبناها القوائم الانتخابية ستتراجع أمام عملية التوافق بين الكتل السياسية، فالصراع داخل البرلمان سيجبر الكثير من القوائم على تعطيل فقرات من برامجهم الانتخابية بما يتلاءم وتحالف الكتلة الأكبر، كما سيشهد البرلمان العراقي القادم تصاعد لدور القوائم الثانوية أو الصغيرة، إذ أنها ستلعب دور بيضة القبان في حال عدم حصول التوافق بين القوائم الكبيرة وهذا أمر مرجح في ظل التباعد في البرامج الانتخابية والانقسامات السياسية السائدة.
ومهما يكن شكل الحكومة القادمة، فقد أثبتت التجربة الديمقراطية العراقية منذ عام 2003، على أن حكومة الشراكة الوطنية (التوافقية) هي حكومة متذبذبة الأداء، وغالباً ما تكون خاضعة للازمات السياسية التي تصيب البرلمان العراقي، فضلاً عن خضوعها للتوافق السياسي بين القوى الرئيسة سيما على مستوى قادة الكتل والزعامات السياسية، وهذا من شأنه تعطيل ممارسة سلطتها التنفيذية، مع عدم إستبعاد المؤثر الإقليمي والدولي في تشكيل الحكومة، إذ من المستبعد أن تسمح حالة الاستقطابات الإقليمية والدولية بإنتاج نظام سياسي مستقل وبعيداً عن المؤثرات الخارجية، وعليه فأن مدى نجاح الحكومة القادمة من عدمه يتوقف على عدة تساؤلات منها: هل أن حكومة الشراكة الوطنية ستكون قادرة على تحمل الأعباء والمسؤوليات التي تترتب على تسنمها زمام الحكم في الفترة الحالية؟، وهل التنافس السائد بين الشركاء سيساعد في تجاوز أزمات البلد الحالية؟، وهل حكومة الشراكة الوطنية ستكون تنافسية الجوهر أم تعاونية؟.
* مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية.