أحمد عبد اللطيف
منذ ولادته، كان الغرافيتي وسيلة للتمرد ومعاداة التقليدية، من هنا يأتي الفارق الجوهري بينه وبين الجدارية الفرعونية، أو استخدام الحائط للدعاية أو لتدوين الذكرى. بطريقة عملية، الغرافيتي محاولة للتمرد ممزوجة بالنية لتدوين التاريخ وحفظ الذاكرة، أو هو محاولة مستقلة لملء فراغ الصحافة والإعلام المزيف، كما أشارت إحدى الرسومات على جدار أرجنتيني. هذه كانت بداياته منذ ما يقرب من قرن في أميركا اللاتينية، وهذه كانت بداياته في مصر منذ عام 2007. اللافت أن بدايات الغرافيتي لم تكن سياسية، أو لم تكن سياسية واضحة، لكن لن يكون ذلك لافتًا لو عرفنا أنه ظهر في ظل سلطات ديكتاتورية، ولم تكن مساحة الحرية تسمح بأكثر من نقد اجتماعي أو اللجوء للمجاز صعب الفهم، ولم يكن الاختيار الثاني يلائم طبيعة فن الشارع الذي يستهدف المواطن العادي لا النخب الثقافية. بمحض صدفة، كان ظهور الغرافيتي بمصر في سياق تكوين حركة 6 إبريل وحركة كفاية وفنانون من أجل التغيير وتمرد عمال غزل المحلة، ورغم أنه لم يخرج عن أهدافه الاجتماعية أو الجمالية، إلا أنه كان رأس السهم لفن سيكون أحد أهم علامات ثورة يناير.
بداية أخرى
كانت ثورة يناير، الخارجة عن المألوف، تحتاج إلى وسيلة تعبير غير تقليدية، تؤثر في المارة في كل مكان، فكان فن الشارع برسوماته وتعليقاته هو الفن المناسب للحراك. كسا الغرافيتي جدران ميدان التحرير والشوارع المتفرعة منه، مناديًا بالحرية ومبادئ الثورة، لكن كان أيضًا أداة لتوثيق الأحداث، من هنا كانت رسومات الشهداء، والعبارات الحادة ضد حكم العسكر، وكان ترمومترًا للحرية التي استولى عليها المواطن في الشارع. أصبح «الشارع لنا» بعد أن كنا محرومين من الفضاء العام، وبقدر تقدم الثورة، كان الغرافيتي يتقدم. كان أحد دلالات سيطرة الشعب وعجز السلطة. وبعد أن قضى فنان الشارع سنوات في الظل، مثله مثل بطلي قصة «غرافيتي» لخوليو كورتاثر، ها هو الآن يخرج وتعرفه الجماهير، لا يعرفون اسمه، لكنهم يعرفون هيئته، يشاهدون أدواته، ويراقبون تطور الرسمة.
حالة الـ 18 يوماً
نتحدث الآن عن عام 2011، حين خرج الشعب المصري من قمقمه، فامتزج التمرد بالفن بالشعر، حالة سميت باسم «حالة الـ18 يوما»، لكنها امتدت على مدار العام، رغم انتقال السلطة للمجلس العسكري، وظل موجودًا أيام الأحداث الكبرى «مذبحة ماسبيرو»، «أحداث مجلس الوزراء»، «أحداث محمد محمود»، أثناء ذلك بدأت معارك بين السلطة الانتقالية وفناني الشارع، وكان محو الغرافيتي من الجدران محوًا للذاكرة. محو الذاكرة، كما هو معروف، أداة السلطة المستبدة وأداة المستعمر على السواء. لاحظ مثلًا ضربات القوات الأميركية في العراق عند الغزو. لاحظ تحركات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، إنه يستهدف الأماكن الثقافية والأثرية، يستهدف هذه الرمزية وهذه الدلالة الهوياتية. إنه تكنيك معروف، لأن بمحو الذاكرة تمحو الهوية، وكان ضروريًا للسلطة الجديدة أن تمحو هوية الثورة من الشوارع، أن تمحو بصماتها.
معاداة الغرافيتي
لن تستمر فترة ازدهار الغرافيتي طويلًا، لتبدأ مرحلة من مطاردة الفنانين، مرحلة ستبلغ قمتها مع وصول السيسي للرئاسة. بداية من هذه اللحظة ستتولى السلطة مهمة الحفاظ على الجدران، ومحو كل العبارات «المسيئة» الموجهة لها، بعد أن استطاعت بالفعل محو كل رسومات الجدران، خاصة جدارية شارع محمد محمود، واحدة من أجمل رسومات الغرافيتي وأكثرها نضجًا وتعبيرًا عن الثورة والثورة المضادة. استمرت الحروب الصماء لفترة طويلة نسبيًا، تشبّه فيها فنان الشارع بـ»علي الزيبق»، يرسم فيمحون الرسمة، فيعيد رسمها مرة أخرى، أو يكتب عبارة مستفزة مثل «كل ما تمسح هرسم تاني» في دلالة متحدية واضحة. يفعل ذلك في أوقات الليل، إذ استطاعت السلطة أن تؤثر بخطابها التحريضي في المواطن العادي، فبات الفنان لا يخشى السلطة فحسب، بل المواطنين أيضًا. تزامن ذلك، أو كان دلالة، لتراجع الصوت الثوري في الشارع في مقابل سيطرة القوى الرجعية المعادية للفن وللحياة. فبعد 30 يونيو والتفويض بالقتل ومذبحة رابعة، حققت السلطة العسكرية مكاسب لم تكن تحلم بها، وسيطرت على الفضاء العام بأكثر مما سيطر عليه مبارك، ونبتت من جديد، وبحدة أكبر، أنياب أجهزة الأمن، فلم تتراجع الثورة إلى الخانة صفر فحسب، بل إلى ما قبل الصفر بكيلومترات. وخلال فترة الرئاسة الأولى للمارشال، انتهى فن الغرافيتي، واختفى فن الشارع من كل الجدران، ليعود إلى سيرته الأولى: جدران تغطيها الإعلانات أو جدران مدارس تحرض على الخير وفعل المعروف واحترام المدرس. وبنفس كتم الصوت الثوري وقمعه، لم يتبق من الغرافيتي إلا ظلال في الذاكرة، كأنه لم يكن إلا محض حلم.
تشابهات وتكرار
حكاية صعود وانتهاء الغرافيتي في مصر (على الأقل الموات المؤقت) تتشابه مع قصة كورتاثر المشار إليها. القصة تحكي عن فناني غرافيتي، رجل وامرأة، لا يلتقيان أبدًا، كل منهما يأتي ليضيف رسمة بجوار رسمة الآخر، يأتيان بشكل متعاقب، كل منهما يعرف أنه مطارد، ومن الأفضل لكليهما ألا يلتقيا أبدًا. وفي النهاية، المرة الوحيدة التي يلتقيان فيها ستكون المرة الأخيرة، إذ تأتي أجهزة الأمن لتلقي القبض على أحدهما أثناء الرسم، فيما يراها الآخر وهي تنسحب وتغيب في الأفق، مرسلة له نظرة وداع. بحرفية، التقط الكاتب الأرجنتيني العلاقة بين الفن والسلطة، علاقة القط والفأر، معلنًا النهاية الحتمية، انتصار القوة والسلاح.
أضاف الكاتب الإسباني بيريث ريبيرتي منظورًا أكثر تفصيلًا في رواية عن فناني الشارع، بعد أن رافقهم لفترات طويلة أثناء عملهم، وكان يسيطر عليه سؤال أي مكسب يحققونه من هذا العمل. ماديًا، لا يحققون أي مكاسب، هي طريقتهم للتعبير والحياة، وعبر مساحات أوسع من الحرية يمكنهم الإبداع، مثل أي فن آخر. لكن فناني ريبيرتي لا يعانون أزمات سياسية، بذلك تنطلق مهمتهم من دافع جمالي يشوبه النقد الاجتماعي، مثل بدايات الغرافيتي المصري، وإن كان المصري اضطر إلى ذلك لظروف القمع السياسي.
في آخر المطاف، قصة القط والفأر لا تنتهي، وعادة ما يبحث الفأر عن طرق جديدة للتسلل إلى أرض القط، والهروب من المصيدة. وفي اللحظة المناسبة، مثل لحظة يناير أخرى، سيملأ الفنانون كل الجدران برسومات تسجل اللحظة واللحظات الماضية، حتى ولو كانوا يعرفون أن فنهم ليس إلا فنًا زائلًا.