احمد رجب
سئل نزار قباني يوما: ما الشعر؟ فكان جوابه البسيط عميقا فريدا كشعره، قال: «ما الشمس؟ ما المطر؟ ما الكواكب والنجوم والشجر؟ الشعر هو تلك المياه الجوفية المخزونة التي تنتظر فرصة لتتجه كالبركان من باطن الأرض المالحة، الشعر هو تلك الطبقة السميكة من ملح البحر التي نغطي بها أجسادنا حرصاً ألا تتعفن، الشعر هو ذلك الصراخ الذي نوجهه إلى الليل ليصبح نهاراً وإلى اليباس ليصبح اخضراراً وإلى الخنجر ليصبح ورداً، الشعر هو ذلك الانقلاب الذي يقوم به الشاعر من داخل اللغة والقناعات الثابتة لتصير صورة الكون أبهى وأجمل، الشعر هو غاية الحرية التي يسلمها الشاعر لشاعر آخر».
شاعر القضايا
الدكتور إسماعيل مروة تناول «نزار قباني وشعر القضايا»، مشيرا إلى أن نزار قباني كان فاصلة بين مرحلتين وحدا بين مرحلتين، والغريب أن كل نقاده توحدوا ضده رغم اختلاف مشاربهم، «فالمتشددون اتهموه بالتحلل وقالوا عن شعره أنه إباحي، وخصومهم من العلمانيين قالوا إن نزاراً قّزم المرأة، والذين ينظرون إلى نزار نظرة أخلاقية يقولون نزار أعطى المرأة وسمح لها بالتحدث والحقيقة ليست كذلك، نزار كان شاعر قضية يريد للمرأة أن تحب ولكن ليس بالدراهم، أن تحب بقرارها لأن الحب مقدس لا أن تبيع الجسد من أجل مال أو منصب أو مكانة ولا من أجل أي شيء، هذا نزار ولو عدنا إلى مجمل أشعاره فسنجده كذلك”.
وأشار مروة إلى موقف الراحل جبرا ابراهيم جبرا الذي اتخذ موقفا سلبيا من شعر نزار وبعد سنوات تراجع ولم يجد غضاضه في الاعتراف بالخطأ، وهو «لم يقل شعر الغزل بل شعر القضايا، لم يضع امرأة يتغزل بها، فهو يعلّم المرأة كيف تتجمّل لذاتها وكيف تتجمّل لمن تحب»، ويضيف بأن الشاعر لم يخترع القضايا بل كانت موجودة في المجتمع، ولو لم تكن حقيقية لما أثارت المجتمع ضده هكذا، ومنذ ديوانه الأول، فقد رفض تبني المنهج الإصلاحي القائم على مداعبة الآلام، لذا كانت رسالته تنويرية تثويرية ولم تكن شعرية مترفة على الإطلاق، فديوانه الثاني «طفولة نهد» جاء تصعيدا في الرؤية والفكر والفن.
ولم يتوقف نزار في كل أشعاره عن معالجة القضايا الكبرى، فالحب قضية لكنه ليس معزولا عن سياقه. فنزار القائل «لا وطن لمن لا حبيبة له»، عرف أن الحب أساس القضايا الكبرى، فلا وطن دون إنسان، ولا إنسان دون حب، وحينما اهتم بالمرأة فلإنه أدرك أسباب تخلفنا وأراد لها أن تكون صانعة قرار، وحينما تناولت قصائده القدس والقضية الفلسطينية كان الشهيد منارته «لم يكتب شعرا خطابيا آنيا، بل زرع كلماته وخناجر قصائده في عمق الوجدان الشعري والإنساني».
أشياء منسية
الكاتب الذي رحل مؤخرا شمس الدين العجلاني سلط الضوء على الأشياء المنسية في سيرة نزار قباني، متوقفا عند علاقة الشاعر بزوجته الأولى «زهراء آق بيق»، والتي آثرت الحياة في الظل منذ طلاقها من نزار وحتى رحيلها في عام 2005، حتى لم تفه بكلمة عن صدمة رحيله، فرحلت في صمت عند بلوغها الثمانين، دون أن يكتب عنها كلمة أو تنشر لها صورة، وقد تزوجت من نزار في عام 1946 وقت أن كان دبلوماسيا بسفارة بلاده بالقاهرة.
وعاشت معه بالقاهرة حيث أنجبت له ابنته هدباء وابنه توفيق، ثم حدث الطلاق فجأة وغادرت القاهرة إلى دمشق عام 1952، لتعود إلى عملها كمدرسة مخلصة لعزلة اختارتها وفرضتها على نفسها حتى وافتها المنية.
ويلمح الكاتب إلى أن ربما الغيرة من المعجبات كانت سببا للطلاق رغم الحب المتبادل بين الزوجين، فذويها لم يقولوا سوى «هي من طينة وهو من طينة أخرى»، بينما أشار المقربون منه إلى أنه حذرها من أن الشعر خط أحمر في علاقتهما، لكن الزوجة لم تفرق بين نزار الشاعر ونزار الإنسان، فحدث الطلاق.
ويشير العجلاني إلى العلاقة التي ربطت الشاعر بالمغنية نجاة الصغيرة ذات الأصول السورية فهي ابنة لخطاط دمشقي «محمد حسني البابا»، وأخت غير شقيقة لعازف الكمان عز الدين حسني والفنانة الراحلة سعاد حسني.
أما نجاة التي أحاطت نفسها بالمثقفين والمبدعين، فغنت لنزار أكثر من قصيدة أشهرها «أيظن»، التي غنتها في مطلع الستينيات وقت أن كان نزار يعمل في بكين، وكان نزار يعتبر الأغنية ابنة لهما معا، فكتب لها من بكين معاتبا لأنها لم ترسل له شريط الأغنية: يا لك من أم قاسية يا نجاة، أريت المولود الجميل لكل إنسان، وتغنيت بجماله في كل مكان، وتركت أباه يشرب الشاي في بكين، ويحلم بطفل أزرق العينين يعيش مع أمه في القاهرة».
وأنهي الرسالة بمطالبتها بالمولود، كاتبا لها «فانهضي حالا لدى وصول رسالتي، وضعي المولود في طرد بريدي صغير، وابعثي به إلى عنواني، إذا فعلتِ هذا كنت أما بحق وحقيقة، أما إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة، رغم معرفتي بأنك تكرهينه».
كذلك فتش العجلاني عن استجواب مجلس النواب السوري عام 1954 للدبلوماسي الشاب عقب نشر قصيدته «خبز وحشيش وقمر» في مجلة «الآداب»، مشيرا إلى دفاع وزير الخارجية السوري عنه حينما قال للنواب «وزارة الخارجية السورية بها نزاران، أولهما الموظف وملفه جيد يثبت أنه من خيرة موظفي الوزارة، والثاني شاعر وأنا لا سلطة لي عليه ولا على شعره، فإذا هجاكم بقصيدة فاهجوه بمثلها».وعن هذه القصيدة وتداعياتها يقول نزار: «وإذا كنت قد لقيت في سبيل هذه القصيدة الكثير من التجريح، فأنا كبير بهذه النهاية التي انتهت بها قصيدتي… وهذا دليل على أن القصيدة استطاعت أن تقتطع الأسطورة من جذورها وتأتي إلى أبي زيد الهلالي على إيوانه فتخنقه».
ولعل أزمتها كانت تمرينا مبكرا على ما واجه قصائده من أزمات رافقته طوال حياته، فكان يتذكرها قائلا: «بين رضى الراضين وسخط الساخطين فتحت القصيدة دربها في الدنيا العربية الكبيرة، تكسر صقيع التابوت الذي حبسنا فيه حياتنا، وتحطم القمقم المسحور الذي فسد هواؤه منذ ألف ألف قرن. وتمزق نسيج الخيمة الكبرى التي نسجتها لنا أصابع الوهم والاتكال فجعلتنا لا ندري أن وراء جدران الخيمة زرقة تولد من زرقة». (خدمة وكالة الصحافة العربية)