محمد رشيد السعيدي
ما يمكن أن تقوم به الصفحات الأخيرة للكتاب، والتي تختلف عن النص جنسا، وتتعلق به توضيحاً، ما تقوم به من ايهام للقارئ، قد يكون أكثر تأثيرا في القراءة مما تقوم به محتويات الغلاف الأخير، نظرا لموقعهما، إذ هما – في الوقت عينه – عتبات أولية بالرغم من ذلك الموقع المتأخر، والتي تفترض أن يمر القارئ بالعتبات – ونحن نستعير مصطلح العتبات من العمارة – الأولى، ثم بالمتن، حتى ينتهي الى العتبات الخلفية، لكن هذه العتبات الخلفية لا تتوفر إلا في البيوت البرجوازية، حين كان للبيت العراقي البرجوازي بابان، وبالتالي عتبات أمامية وخلفية..
قد تكون هذه المقدمة واقعة قرائية لرواية (لا تقولي إنك خائفة) للروائي الايطالي (جوزبّه كاتوتسيلا)، والصادرة عن دار المتوسط عام 2017، ففي حالة القراءة الأفقية، لا مرورَ بما مكتوب على الغلاف الأخير، ولا الصفحات الأخيرة التي تتمتع بأكثر من علاقة بالنص، إلا بعد الإنتهاء من قراءة النص، لذا فإن هذه الدراسة ستكون مقارنة بين واقعة قرائية، حقيقية أو افتراضية، وكتابة المؤلف، التي أفصح عن ميثاقها السردي في عتباته في الصفحات: 257- 261.
تعتمد الرواية السيرية على مجموعة أدوات، في مقدمتها ضمير الحكي: وهو ضمير المتكلم، هنا سيتحدث الراوي البطل – ضمير الحكي هو الذي جعله، أو أكّد كونه راويا بطلا – عن تجربته، طالت أو قصرت، ولا يهم أبدا كونها حقيقية أو متخيلة، ولا تتطلب قراءتها البحث عن حقيقيتها، بقدر ما يهم ما فيها من جماليات التقديم، واغراءات المواضيع والشخوص والأحداث والأماكن والوصف وغيرها، وإذ لا تفصح الرواية عن تفصيلات هوية الراوي البطل منذ أسطرها الأولى: «حين تعاهدنا أنا وعلي، …، قطعنا سبعة كيلومترات دون أن نتوقف، …، لقد وُلدنا في العام نفسه» (الرواية: ص7)، فإنها ستنكشف عن راوية أنثى: «هل تريدين أن تكوني أختا لي، سألني» (ص7)، وأخوّة بين طفلين: أحدهما ذكر، سبق للرواية أن كشفت عنه بواسطة تسميته: علي، وأنثى: سامية.
وعند تجاهل المعلومات الخارجية عن الرواية، تلك العروض المنتشرة على صفحات التواصل الاجتماعي، والتي يمكن أن تعرِّف الرواية بأنها سيرة العداءة الصومالية سامية يوسف عمر، عند تجاهل ذلك – وهو صعب – فإن الحكايات المتعلقة بالسباقات كلها يمكن أن تكون تخييلية، من السباقات المحلية في مقديشو، وفي جنوب الصومال، وفي هرجيسا، الى سباق جيبوتي، والعلاقة مع اللجنة الأولمبية، وصولا الى أولمبياد بكين عام 2008: «الى أين يصل طموحك، يا سامية… سأشارك في أولمبياد 2008» (ص49 – 50)، هنا يتحفز تساؤل القراءة عن الوثوقية، عن الحقيقية، في هذا، إذ لماذا التأريخ الدقيق؟ والسؤال الذي يمكن أن يطرحَه تواجدُ الأسماء الحقيقية لعداءات عالميات اشتركن في أولمبياد بكين، هو بعض الجواب عن حقيقية النص: «سأشارك… مع إحدى البطلات المفضّلات لديّ، العداءة الجامايكية فيرونيكا كامبيل – براون» (ص50)، و: «كانت هناك شينيكو فيرغسون… الكندية أدريان باور» (154)، الآن، وبعد هذا التأريخ والأسماء الحقيقية، يمكن أن تقرأ الرواية على أنها رواية سيرية، سيرة شخصية للعداءة الصومالية سامية يوسف عمر، كتبها روائي صومالي، على أغلب الظن، استنادا الى التضامن الوطني، ويمكن القول إن مؤلف (لا تقولي إنك خائفة) تمكن لحد الآن من النجاح في كتابة رواية سيرية، لشخصية معروفة، مستثمرا أهم أدوات هذا الجنس الروائي وهو ضمير الحكي، فضلا عن المعلومات التي توفرها الشخصية: دفاتر مذكرات، صور، تسجيلات صوتية أو فيديوية، شهادات الأهل والأصدقاء، أية وثائق مادية أو معنوية تتعلق بالشخصية.
ولا يؤثر كثيرا على قيمة الرواية كتابتها بطريقة تقليدية، كرونولوجية، مع استرجاعات/ تداعيات قليلة، أغلبها خارجية، وبعد أن يعرف القارئ أن سامية حققت المركز السادس والأخير في أولمبياد بكين، فإنه سيعرف أيضا أن – تنبأ لها مرافقها عضو اللجنة الأولمبية الصومالية، قبل السباق، وأخبرها بأنها لن تفوز – هذه المشاركة، وتلك النتيجة، هما عتبتان باتجاه أولمبياد لندن 2012، لتمضي الرواية بهذا الاتجاه، مع بطلتها، التي لن يبقى أمامها طريق سوى الهجرة، واذ تمر الرواية بسبل الهجرة، وبأساليب المهربين، فإن السرد السيري لن ينحرف عن مساراته الفنية، ولا يفارق ايقاعه، منذ الجملة الأولى للنص، حتى: «تركوني أذهب، واصطحبوني الى المطار» (ص250), هكذا يصطدم القارئ بالتناقض، في أوربا يسمح لمهاجرة غير شرعية بالانتقال السهل، ثم يتفاجأ القارئ بسرعة الايقاع، التي قد تتناسب مع الوقت القليل الفاصل بين «31 اذار/ مارس 2012» (ص235)، و27/ 6/ 2012، هذا التناسب بين الايقاع السردي السريع، وبين المدة القليلة الفاصلة بين تأريخ هجرة العداءة الأولمبية الصومالية سامية يوسف عمر من طرابلس باتجاه ايطاليا، وتأريخ انعقاد أولمبياد لندن، ليس مبرراً كافياً لتبديل الايقاع البطيء الذي تميز به سرد الرواية منذ بدايتها الى هذه اللحظة، مع الأخذ بنظر الاعتبار كل ما يمكن أن يحصل بسبب التطور في حقوق الانسان وفي تجاوز البيروقراطية، وفي احترام العداءة ومشاركتها في الأولمبياد قريب البدء، كل هذه الأمور كان يمكن أن تتشكل أجزاء جديدة من الرواية، حكايات وأحداث وأشخاص وأماكن ووصف، تميزت به الرواية، لكنها بقيت حلما سحريا، حلم راود سامية في يقظة موتها، كما افترض المؤلف، فتسببت بهذا الاستعجال، وتسريع الإيقاع؛ مؤديا الى إحداث صدمة لدى القارئ، لا تقل قوة عن صدمة اعتراف علي، أخي سامية، بقتله أبيها في السوق!!
عناصر المفاجأة تلك جزء من الجماليات السردية في الرواية، ويبدو أنها – بوجود أخريات لم ترصد ربما – ميزة لرواية (لا تقولي إنك كاذبة)، لأن النصوص الأخيرة، غير المفصولة إخراجيا، إلا بكونها في أوراق منفردة، سوف تكون عناصر مفاجأة أخرى، فضلا عن كونها مفاتيح، أو أدلة على وثائقية هذه الرواية، أما النصوص الأخيرة فهي: أولا: «توفيت سامية يوسف عمر في البحر المتوسط في 2 نيسان/ ابريل 2012 اثناء محاولتها الوصول الى الحبال الملقاة من إحدى القوارب الايطالية»، يرد هذا الخبر في صفحة غير مرقمة هي (253) حسب موقعها التسلسلي، مبرِّرا آخر لتسارع الإيقاع السردي المشار اليه قبل قليل، وحاملا تناقض، بعد صدمة المفاجأة، حقيقة الموت الصادمة، مع «هذه هي البداية.. الآن أركض» (ص251)، وثانياً: صورة سامية، (ص252)، وثالثا: صورة منار، مؤرخة بـ (هلسنكي شباط/ فبراير 2013)، ومنار هي بنت أخت سامية، بنت هودان التي هاجرت قبل سامية، ووصلت الى فنلندا، حسب الرواية السيرية.
هذه النصوص الثلاثة غير مفصولة عن الرواية، بعبارة انتهت، أو بعناوين مستقلة، لتؤكد أنها جزء من النص أولا، ووثائقية النص وحقيقيته، وهو ما يتلاءم مع كون الرواية نصا قابلا للتوثيق والتسجيل، والتخييل، والمزج بينهما، بكميات وطرق غير قليلة، ولا معيار لذلك لدى القارئ الا جمال التقديم/ الكتابة.
حتى نمرَّ بالعتبات الخلفية للرواية – بعض منها من عنديات المؤلف – والتي تحمل عناوين تفصح عن هويتها، لتكون: «ملاحظات المؤلف» (257)، «شكر» (ص259)، وصولا – بعد انتهاء الرواية/ النص – الى العتبات الأخيرة، وهي الموضوعة على الغلاف الأخير للكتاب، والتي تحتوي على ثلاثة نصوص، أحدها تعريفي كتبه الناشر، والثاني شهادة «نجاح» كتبها الروائي الايطالي إرّي دي لوكا، والثالث تجنيس الروائي الايطالي روبرتو سافيانو.