القديم والجديد !

إذا ابتليت بحب الشعر، وأكثرت من قراءته واستظهاره. وبدأت بجمع الغريب النادر، ورواية المليح الرائق. وفطنت إلى أسرار البلاغة وأساليب البيان. وأدركت نقاط القوة وأوجه الضعف. فاعلم أنك ستكون في واد وشعراء عصرك في وادٍ آخر. وستسوء علاقتك مع الشبان الصغار، والفتيات الحالمات. وستجد نفسك رهين دارك لا تخرج منها إلا لشراء (الصمون) أو جلب الخضار أو استلام الحصة التموينية!
وإذا ما أتيحت لك فرصة الاستماع لشرح شارح، أو الانصات لنقد ناقد، فلن تخرج بنتيجة ما. ولك أن تقلب هاتفك النقال، وتنشغل به عما حولك. فكل ما قرأته ودرسته وحفظته انتهى زمانه، ودرست أخباره. ولم يعد يمت للحداثة بصلة أو يدين للمعاصرة بوشيجة. وعليك أن تعي أنك في جلسة كهذه ستكون أبكم وأصم وأعمى، لأنك لم تغترف يوماً من مناهج النقد الحديث، ولم تعرف البنيوية أو التفكيكية أو الشكلانية. ولم تلم بمدرستي براغ أو فرانكفورت. ولم تقرأ كتب رولان بارت أو بليخانوف، أو كلود ليفي شتراوس أو جاك دريدا، أو آخرين.
وعليك إذا ما رمت أن تحتفظ بعلاقة ما مع من تجمعه بك صلة قربى، أو زمالة عمل، أو رابطة جوار، أن تنكفئ على نفسك فلا تهمس بما تحب، ولا تفه بما تعشق. لأن هؤلاء لن يصغوا إليك أو يكترثوا بك. فلديهم ما ينشغلون به عن أحاديثك الموغلة في القدم، الضاربة في عمق التاريخ. ولن تستطيع مهما فعلت أن تحملهم على تذوق ما يروق لك من الأخبار، أو ما يشبع نهمك من الروايات!
وأنت لمَ لم تخرج من محيطك الذي ألفته، وعالمك الذي وعيته، ألم تر أن الزمن قد تغير، وأن الحياة قد انقلبت رأساً على عقب؟ ألم تجد أن المكوث في حقبة ما لا يستقيم مع منطق، ولا يتلائم مع واقع. ألم تع أن الدنيا لم تعد كما كانت قبل ألف عام أو يزيد، وأن عليك أن تسلم بما حصل دون اعتراض؟
وأنت تعلم أن مهمة الإنصات لقطعة من المقطوعات، أو ومضة من الومضات، لن تكلفك سوى دقائق قليلة. ثم تنساهما حال مغادرتك المكان. فهما ليسا إلا مجموعة من الألفاظ التي ألفت سماعها في الإذاعات المرئية أو حافلات النقل العام! وهما محض جمل (مفيدة) مرسلة لا تقيم حقاً ولا تدحض باطلاً. ولكنها أهون وقعاً على الأذن، وأخف حملاً على القلب، من عبارات منمقة، ومعان مكررة، ونظم ثقيل، وحشو سمج! وإن كان يجمعهما مصير واحد لا ثاني له، هو نعمة النسيان!
مصيبتك أيها المبتلى أنك تعيش في مجتمع لم تألفه، وبيئة لم تعشها. وليس هناك ما يطري إحساسك سوى العودة إلى امرئ القيس وابن أبي ربيعة ولسان الدين. فهؤلاء وأمثالهم لا يختلف على فضلهم اثنان، ولا ينكر شأوهم إنسان. وإنك لألى الله وإليه راجع، فلا تأس على واقع، ولا تبك على فائت، واغترف من الحاضر ما شئت، فليس من طبع الليالي الأمان!

محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة