الجزء الثاني
عبد علي حسن
وتكاد تشترك جميع نصوص ( راهب العنب) بهذه الخصائص التي تتمتع بها قصيدة النثر ، اذ اسهمت حساسية المتخيل الشعري في تمكين النصوص __ التي ظهرت في بنائها ملامح الإخبار النثري __ من امتلاكها صفة المغايرة والاختلاف والتوتر وفي أحايين كثيرة اللاغرضية من أجل تقديم صورة تكشف عن جمالية متفردة تثير وتصطدم بذائقة المتلقي في تخليق فضاء شعري بعيدا عن مايمكن التوصل اليه بيسر وسهولة وهنا بالضبط حافظت النصوص على قدرات قصيدة النثر الاجناسية .
ففي نص (ضارب النار) ينفتح التخييل على مساحة واسعة من مقاطعه الثلاثة ، اذ يسعى كل مقطع الى بنية شكلتها العناصر المكونة التي اعتمدت كفعالية لغوية للوصول الى المعنى الذي يثبته النص ، ففي المقطع الاول نقرأ :-
( ثمة ..
من لم يصل بعد
فالأشجار واقفة
منذ زمن بعيد …..النص ص95)
يحيل هذا المقطع الى تشكل بنية الإنتظار من خلال العناصر الآتية (من لم يصل بعد + وقوف الاشجار ) ويرتبط العنصر الثاني بالعنصر الأول على نحو سببي ، فوقوف الأشجار منذ زمن بعيد كان بسبب من ان احدا ما لم يصل بعيد ، وكلا العنصرين خلقا بنية الانتظار ، ويذهب النص بعيدا وفق مبدا التخييل الى اقتران فكرة اختيار الأشجار الواقفة بفكرة شائعة وهي موت الاشجار واقفة للتدليل على طول الانتظار (منذ زمن بعيد) الى مستوى الانتظار موتا لتأكيد طول الإنتظار الذي ربما يفسر او ينتهي بالموت قبل ان يصل أحد ،وهذا ما اراده النص وفق مرجعيتنا القرائية بل قل مغزى النص ، اذ ان وجود اداة الجزم (لم) بعدم وصول ال(ثمة) قد حال دون تحقيق الوصول الأمر الذي جعل النص يقترح الحالة المتفردة للأشجار بموتها واقفة ليعزز من بنية الانتظار غير المجدي ، فليس هناك مايشير الى امكانية تحقق الوصول ، ونرى ان ماكرس هذه البنية تبعا لعناصرها المكونة هو انفتاح التخييل الى مستوى استبطاني لفكرة الانتظار وهذا مامنح النص دفقا شعريا دلاليا دون استخدام لأي من ألآليات البلاغية المعروفة ، على الرغم من استعارة حالة الأشجار واسقاطها على حالة منتظر وصول من لم يصل بعد .
وفي المقطع الثاني نقرأ :–
( مازلت اسمع فأسك
في قصص النوم
ايها الحطاب القديم
__
__
فأس !
لكن قصتي خضراء …النص ص96 )
تتبدى في النص الآنف الذكر بنية التحدي واضحة عبر هيمنة الوظيفة الخطابية / الافهامية للنص لتوصيل تجربة شكلتها الوظيفة الانفعالية / الشعرية ، وكلا الوظيفتين خلقتا بنية التحدي عبر عنصر استمرار الحطاب القديم باستخدام الفأس وسماع الذات الشاعرة لصوت الاحتطاب الذي افترضته في قصص النوم ، وواحدة من هذه القصص هي قصتها التي تؤكد عدم تمكن الفأس من احتطابها لكونها (خضراء ) ، فمفردة (خضراء) قد قطعت الطريق امام الحطاب ليتمكن من توجيه الفأس عليها ، ولعل حساسية التخييل قد اسهمت في اكتناف النص غموضا يستدعي مرجعية معرفية في ايجاد علاقة دلالية بين الحطاب ( القديم ) وفأسه من جهة والذات الشاعرة وقصتها الخضراء من جهة أخرى ، فقد تبدت بنية التحدي عبر التعجب من الفأس التي لم تأبه بها الذات لتأكيد إخضرار القصة وعدم تمكن الفأس من الأغصان الخضراء وهنا احالة الى تمكن النص من توسيع مدى التخييل الشعري عبر استخدام القرائن اللغوية واحالاتها الدلالية المستبطنة فضلا عن استخدام آلية المحو والفراغ في الحوار المفترض الذي يشير الى امكانية اسهام المتلقي في وضع هذه الحوارات الغائبة التي اراد منها النص ان تكون ايحاء بوجود حوار داخلي بين الذات الشاعرة والحطاب القديم ولعله حوارا فارغا لن يغير موقف الذات في تحديها للحطاب وفأسه .
ويتضمن المقطع الثالث من هذا النص (ضارب النار ) صوتين الأول للذات الشاعرة وهي في موقع المخاطبة(بكسر الطاء) منذ بداية المقطع ( في خرجي آثار اقدامك )حتى جملة ( كم ستقول لي : هلمي) حتى نهاية المقطع وفيه تتخذ الذات الشاعرة موقع المخاطبة (بنصب الطاء ) اذ تفترض الذات خطابا موجها من الآخر الذي يحاول تقريبها منه عبر جملة من الوعود ، لذا فقد هيمنت الوظيفة الافهامية/ الخطابية على مجريات النص الذي نلحظ فيه القدرة على تأثيث المتخيل بشكل يمحو فيه أي أثر لنثريته ، اي سيادة الفضاء الشعري الذي بدا هدفا بنائيا للنص ، اذ مارست الشاعرة حرية كاملة في اطلاق قدرة النص التخييلية لتحقيق حساسية التدفق التخييلي ولوضع المتلقي في منطقة شعرية صرفة مستفيدة من تخلصها من قيود القواعد الوزنية والقافية لينطلق النص سابحا في مناطق معرفية وجمالية لاتخلو من غموض في تركيب العديد من الجمل الشعرية بدافع البقاء في منطقة الشعر المتحقق عبر الانزياحات والاستعارات التي تمكنت من توصيل المعنى الذي من الممكن قراءته في مستويات دلالية مختلفة خاصة في استخدام الميثولوجيا الاغريقية :-
( فلا تؤمني بالشمس!
ميدوزاتها اللائي تتبعني
حتى دخلت المتاهة
والى الآن لم أعد ..ص99)
او في استثمار قصة النبي ابراهيم :-
(يا الله
ضحكت علي البلاد..
لن اتزوج ابراهام ثانية
لن أطوف في البرية
لا اريد كبشك ولاغيمتك
أنا لغتك….ص100)
ان هذه التعالقات مع الميثواوجيا والقصص القرآني وغيرها من العلائق التي تمكن النص من اقامتها قد جعلته ذو ابعاد معرفية شاملة لم توقف التجربة عند حدود العلاقة العاطفية البسيطة والمسطحة بين الذات الشاعرة بعدها انثى وبين الآخر بعده ذكر ، على الرغم من حرص النص على الكشف عن سمته الانثوية ولغة الانثى واسلوبها الذي اتضح في جميع نصوص المجموعة الذي نوهنا اليه آنقا ، ويمكن ملاحظة ذلك على نحو واضح في نص (كناريا..كل ماعندي ) اذ يتبدى التخييل في اوسع مدياته في الكشف عن رؤية الشاعرة للامومة وامتداد علاقة المراة بتفاصيل الحياة من خلال علاقتها بابنتها ( كناريا) ، اذ منحت حساسية التخييل مساحات دلالية متسعة يجد فيها المتلقي حرية في استدعاء مرجعياته للتوصل الى مغزى النص وموجهاته المعرفية والجمالية المضمرة .
لقد تبدت حساسية المتخيل الشعري في نصوص مجموعة )راهب العنب ) للشاعرة نضال القاضي في اجتراح وتخليق مناطق للتخييل خاصة اسهمت في نقل النصوص الى مساحات شعرية صرفة قاطعة الطريق امام تحقق مبدأ النثرغايته الشعر كما هو شائع في بناء قصيدة النثر فالموضوعات لم تكن نثرية فضلا عن اللغة التي نأت بالنصوص عن منطقة النثر بناءا وتعبيرا ، وكل ذلك قد تحقق بفضل التخييل الشعري المحض، ولعل في التجارب العالمية والعربية نماذج تقترب منها مجموعة (راهب العنب) من حيث البناء ، إذ تنضوي تحت مسمى ( الشعر الحر ) المنزوع الوزن والقافية وإن اختلفت عنها في الكيفية التي مارس فيها التخييل حريته مخلقا حساسية متفردة وضعت الشاعرة نضال القاضي في صف متقدم مع الآخرين من كتاب هذا الجنس الشعري الذي اجترحه بامتياز الشاعر الامريكي والت ويتمان في ديوانه الشهير ( أوراق العشب ) في منتصف القرن التاسع عشر وتبعه ت.س . اليوت وعزرا باوند ، والكتابة في هذا الجنس شائع في الثقافة العالمية.