ثلاثية بغداد..
محمد رشيد السعيدي
ربما تكون ظاهرة الرواية المسلسلة، أو الرواية المقسمة على عدد من الروايات، قليلة في الرواية العربية، وقد تكون الثلاثية الأشهر والأقدم في هذا السياق، ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ: بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية، التي نالت – مثل كثير من سرديات محفوظ – اهتماما دراميا، سينمائيا وتلفزيونيا، أسهم في ازدياد انتشارها.
وثمة ثلاثية أخرى مهمة في الرواية العربية، ربما لم تحضَ بما حظيت به الأولى من انتشار، هي بيروت مدينة العالم للبناني ربيع جابر، بأجزائها الثلاثة، وقد يكون وقت صدورها، وعدم تحويلها الى دراما، سببان في أنها لم تنل ما نالته الأولى من شهرة، ولكنها تمتاز بكثير من الجمال والإبداع الفني.
أما الثلاثية الثالثة فهي ثلاثية بغداد للعراقي عبد الله صخي، وتتكون من: خلف السدة، ودروب الفقدان، واللاجئ العراقي، وكان لها حضور طيب في القراءة والتلقي العراقي خاصة، وربما، أو يؤمل، أن تستفيد منها الدراما العراقية.
بين تلك الثلاثيات ميزات مشتركة، وميزات مختلفة أيضا، فهي روايات واقعية اجتماعية، تعتمد على خلفية تاريخية بقدر أو آخر، وبشكل أو غيره، إذ يرصد نجيب محفوظ التحولات الانثروبولوجية للمجتمع المصري ممثلا بعائلة، ومؤوَلا بالانتقالات المكانية في الأحياء السكنية، مطلا على بعض الأحداث التاريخية وخاصة ثورة 1919، من خلال السياق السردي؛ باشتراك (فهمي) أحد شخوص الرواية في السياق العام/ التاريخي. وتتابع ثلاثية ربيع جابر التطور العمراني لمدينة بيروت، من خلال التحولات الانثروبولوجية فيها، وامتداداتها التوسعية المستمرة، وتحول الأحراش والمزارع والبساتين الى أحياء سكنية، على خلفية أحداث كبرى هي السياق الاجتماعي التاريخي العام، والأحداث التي تنتمي الى السياق الخاص، إذ يعتمد ربيع جابر على تاريخ لبنان المدون، وعلى المخطوطات والروايات الشفاهية، وتاريخ العائلة، ويتكئ على أحداث تاريخية كبرى مثل الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان سنة 1860، وتدخّل الأساطيل الأوربية، ومشاركة الشوام من البيروتيين وغيرهم في الحرب العالمية الأولى على الجبهة العثمانية الروسية، يقابلها الانتقالات المكانية لشخوص الرواية، عبر الأجيال التي تشكل النسيج السردي، وتحولاتهم الاجتماعية والاقتصادية. وعلى الرغم من دقة الوصف وكثافته في ثلاثية القاهرة، ورسمه صورا واقعية للمكان واهتمامه به، فإن بطلها المجتمع لا المكان، بينما يبدو المكان هو البطل في ثلاثية بيروت؛ فقد حظي الأول بوصف مفصل، يكاد يقترب من رسم خرائط، وبناء نماذج مصغرة لبيروت، متعددة بتحولاتها الجغرافية والزمنية والبشرية، على الرغم من اهتمامها بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة للأسرة بطلة الرواية، أسرة المهاجر الدمشقي عبد الجواد أحمد، الذي يذكرنا إسمه بإسم بطل ثلاثية محفوظ أحمد عبد الجواد، وقد يكون ذلك تناصا واعيا، فتطور شخصية عبد الجواد أحمد، وزيجاته، وأبناؤه وبناته، والتفاصيل الدقيقة والمتشعبة لحيواتهم، يتواشج مع تطور مدينة بيروت، وازدياد حجمها، وعدد محلاتها، وأسواقها التجارية، وطرقها الجديدة، والعلاقة السببية بين الطرفين، والقائمة على أساس العمل!
ثمة تشابه جزئي بين ثلاثية عبد الله صخي والثلاثيتين السابقتين في العنوان، اذ ترسخ عنواناتهما في المكان، بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية، أسماء أحياء سكنية في قاهرة بدايات القرن العشرين، وبيروت مدينة العالم عنوان الأجزاء الثلاثة، وخلف السدة هو أحد أسماء أصول مدينة الثورة/ الصدر، الحي السكني الشهير في شرق بغداد، وفضلا عن كونه اسم مكان، فهو اسم انتقالي، نابع من الوعي الشعبي العفوي، يشير الى موقع سكنه الفلاحون المهاجرون بسبب الجوع والفقر من محافظات جنوب العراق وخاصة محافظة ميسان، نلاحظ أن الهجرة سبب تاريخي وسردي في ثلاثية ربيع جابر، التي ترصد دور المهاجرين الشوام، ومهاجري الجبل من الدروز والمسيحيين، في التحولات الاجتماعية والتطورات الاقتصادية لبيروت في حوالي قرن بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، مثلما هي سبب غير مباشر في إنشاء حي الثورة، وسبب مباشر في كتابة الثلاثية، كرواية تكوين، وأجيال. لكن عنوان ثلاثية عبد الله صخي سوف يتحول، بتحول شخوص الرواية، أو انه سينفتح، ويتعدد، ويمهد لعنوان آت، فخلف السدة عنوان الجزء الأول هو اسم المكان الأول بالنسبة للمهاجرين الى الضواحي غير المسكونة لمدينة بغداد، والواقعة خلف سدة ترابية أنشأت لحماية بغداد من الفيضانات، ثم دروب الفقدان عنوان الجزء الثاني، الذي ينفتح على المكان عامة، فالدروب هي أية دروب في أي مكان في العالم، وإن عرّفت بالإضافة، أو إن الإضافة التعريفية أكدت عمومية هذا العنوان، ولا يخلو ذلك من علاقة ترصد التحول من الاهتمام بالمكان الى الاهتمام بالحراك الاجتماعي لبطل الرواية خاصة، ولشخوصها الآخرين الواقعين تحت تأثير السياق التاريخي/ السياسي للبلد، تمهيدا للانتقال الكلي في العنوان والمكان، إذ نقرأ اللاجئ العراقي عنوانا للجزء الثالث، فتكون علاقته بالمكان علاقة عامة مطلقا في مفردة اللاجئ، وعامة محددة في مفردة العراقي، هذا التحول في العنوان، وعدم اختصاصه بالحي السكني مدينة الثورة، يشابهه التحول في السياق السردي للجزأين الثاني والثالث، حتى أن الأخير سيتشكل من شظايا أماكن، لكن المكان الأول يظل منافسا قويا لمكان اللجوء: لندن، ربما تسببت في ذلك علاقة الكاتب بالمكان في الحالات الثلاث، من خلال الإقامة الدائمة والمستمرة لمحفوظ في القاهرة، وجابر في بيروت، والإقامة المؤقتة، والمحددة بالجزء الأصغر من عمر عبد الله صخي في بغداد، وانتقاله الى المَهاجر وصولا الى لندن، لكن ذلك لا يمنع من اشتراك الثلاثيات الثلاث في الاحتفاء بالمكان عامة، والحب للمكان الخاص، والأول، في حالة ثلاثية صخي، التي ستختلف عن الأخريين في تشتت المكان، وانتقاله من الخاص/ المحلي، الى العام/ العالمي، مثلما ستختلف عنهما في قصرها، أو قصر أجزائها، بينما الأوليان طويلتان، أو طويلتا الأجزاء! وقد افتقرت ثلاثية بغداد الى الوصف، إذ تتناسب قلته مع صغر حجمها، وكان بإمكان المؤلف جعلها بحجم الثلاثيتين؛ لأن فضاء روايته مليء بما يمكن أن يسطر على ألف صفحة من القطع الصغير، على الأقل، لكن ربما كان ابتعاد المؤلف عن المكان، فضلا عن بعده عن المصادر الشفاهية والمكتوبة، سببا في قصر ثلاثيته، بينما تعايشُ محفوظ وجابر مع مكانيهما يوميا تدفقٌ سردا مليئا بالتفاصيل.
الميزة المهمة هي اتفاق الثلاثيتين الأوليين واختلاف الثالثة عنهما، في دلالات العنوان، إذ تؤكد الأولى البقاء في القاهرة، وان الانتقال ليس أكثر من انتقال بين الأحياء السكنية القريبة، والعنوان هو أسماء أحياء قاهرية، والثانية عنوانها متكرر في الأجزاء الثلاثة، توكيدا لظاهرة المكان وتحولاته، وقد يكون المؤلف عند نشر الجزء الأول من روايته لم يكن قد قرر كتابة أكثر من جزء لهذه الرواية، إذ لم يكتب على غلافها (الجزء الأول)، تكرار العنوان في الأجزاء الثلاثة، وبقاء الشخوص في بيروت، والانتقالات القليلة أيضا في الأحياء السكنية، يقابله ذلك القلق والهجرة والانتقال المكاني البعيد، في ثلاثية بغداد، الأوليان روايتا استقرار، وهوية ذات نسيج متماسك، بينما الثالثة رواية انتقال، وعدم استقرار، وتشظي هوية.