إهداءات

كثيراً ما فكرت وأنا أهم بإهداء نسخة من كتاب إلى صديق أو صديقة، وأثبت توقيعي المتواضع عليها، أن هذا التقليد سيتلاشى إلى الأبد، ويصبح أثراً من الآثار. فحينما تؤذن (شمس) الورق بالمغيب، ويغدو الكتاب المطبوع سلعة منقرضة، ويكون على القارئ أن يلتصق بالشاشة البيضاء، أو الهاتف المتنقل الصغير ليقرأ ما يتيسر له من الصفحات، عندها لن يتمكن من كتابة كلمة إهداء صغيرة عليه.
إن عادة إهداء الكتب المطبوعة هي واحدة من التقاليد الجميلة التي ماتزال حية حتى الآن. ولولاها لبقيت هذه الكتب مكدسة في أرفف مكتبات بيوتنا، أو في غرف نومنا. فليس ثمة من يستهويه هذه الأيام شراء الكتب. وليس هناك من يتكبد المشاق للحصول على نسخة منها. وقد ذهب ذلك الزمن الذي كان يتقاتل فيه الناس لاقتناء مطبوع ما، وبات مجرد ذكرى جميلة. على أن عادة إهداء الكتب إلى الأصدقاء في طريقها للانقراض هي الأخرى، مثل عشرات التقاليد الثقافية التي اندثرت دون ضجيج أو عويل! فالحداثة ماضية في طريقها شئنا ذلك أم أبينا، رغبنا فيها أم عزفنا عنها. تقبلنا هذا المصير أم أشحنا بوجوهنا عنه!
وفي خزانتي الكثير من الكتب التي تحمل إهداءات أصحابها إلى أصدقاء لهم. وبعض هؤلاء من المشاهير الذين اضطروا للتخلي عنها لظرف طارئ، أو لزهد أبناؤهم فيها بعد رحيلهم عن الدنيا، أو غير ذلك من الأسباب. وربما لا يعلم البعض أن المحبين في ذلك الزمن الغابر كانوا يتهادون الكتب التي يقتنونها من الأسواق كلما دنت مناسبة، أو حلت ذكرى. ولم يكن من الضروري أن يكونوا قراء مدمنين، كي يؤثروا الكتاب على ما سواه. فالكلمة الجميلة المطبوعة بين دفتي غلاف جميل كانت تستهوي الجميع، وهي سلعة خالدة لا تبلى بمرور السنين، ولا تفقد رواءها بتقادم العهود، مثل باقي السلع (غير المعمرة) من الأطعمة والمشروبات والمفروشات!
على أن هناك تقليداً آخر درج عليه كتابنا القدامى على وجه الخصوص، ثم انتقل إلى الغربيين، ومازال (ساري المفعول) إلى زمننا هذا، وهو تقديم الكتاب حال الانتهاء منه هدية إلى الأمير أو الحاكم أو السلطان أو الأب أو الأم أو الزوجة! وكان في الأصل يهدى إلى أولي الأمر لنيل الحظوة أو الشرف أو المال. فبالأخير وحده يحيا الإنسان! ولما أصبح هؤلاء أقل كرماً من أسلافهم، واشد حرصاً على المال العام من أجدادهم. وجد المؤلفون أن الآباء والأمهات والأزواج أولى بهذه (المكرمة) من سواهم. وبات الرزق على الله الواحد القهار وحده، يحصلون عليه من عمل أو وظيفة أو تجارة أو إرث أو غير ذلك من الأمور!
يبدو مثل هذا الصنيع عملاً نبيلاً في المقام الأول، على الرغم من أنه لا يجلب منفعة ولا يدر دخلاً. فالإهداء الخالي من الجدوى الاقتصادية مجرد تقليد رمزي، لا يقي من عوادي الزمن ولا يؤمن من عثرات الأقدار. ولا يسهم في قليل أو كثير، في دفع حركة الثقافة والتأليف إلى الأمام. ومثل هذا التقليد سيندثر هو الآخر مثل سابقه حينما تدور عجلة الزمن، ويزهد الناس في كل شئ يمت للكتاب بصلة أو رباط!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة