قصة حب مجوسية …
جلال حسن
مثلما تعاطف القارئ مع «رجب إسماعيل» وأخته «أنيسة» في رواية شرق المتوسط للكاتب «عبد الرحمن منيف» التي تتحدث عن السجون والهزائم والمنافي ، تعاطف أيضا مع البطل العاشق و» ليليان» في رواية « قصة حب مجوسية» التي تتحدث عن الحب والأمل والانتظار والحيرة والإحباط والسخط على القدر.
والرواية باختصار: قصة رجل شاء له الهوى ان يقع في حب امرأة متزوجة اسمها ليليان، التقاها مصادفة في رحلة يقضي فيها إجازة، فاشتعل لهيب الحب في قلبه مذ رآها لأول مرة، وتعايش مع هذا الحب بداخل عقله بعد ان ملكت قلبه حتى بعد رحيلها عن المكان وعودته الى المدينة.
ان رواية قصة حب مجوسية تزج القارئ في تساؤلات كثيرة. ما الحب؟ ما الاختيار؟ ما الخطيئة؟ ما الإعجاب؟ ما الحياة؟ ما الدين؟ ما الجنون؟ ما الحظ؟ ما اليأس؟ ثمة أشياء كثيرة في الحياة ليس لها أي تفسير، واقعا نلتقي بأشخاص للمرة الأولى لكن ندرك أننا نعرفهم منذ زمن بعيد. وبالعكس نلتقي بأشخاص يوميا لكن نشعر بالغربة والابتعاد عنهم، الحب مشاعر إنسانية تخضع لظروف وخسائر وإحباط وظفر وانشراح وتقبل ورفض في كينونة هذا الإنسان العجيب.
وفق عبد الرحمن منيف في عنوان روايته وكان ذكيا في اختياره، عنوان ملفت « قصة حب مجوسية» يشد في دلالة النار المقدسة، لأن المجوسية تقوم على النار، تلك النار المشتعلة في المعابد والتي لا تنطفئ أبدا، النار المقدسة التي تذيب الفروقات بين البشر. وأن الحب المقدس لا يعترف بالفروقات ولا تخمد ناره أبدا كالنار.
يبدأ عبد الرحمن منيف الرواية: (لا أطلب منكم الرحمة ولا أريد عطفكم أذا كنتم محسنين فامنحوا صدقاتكم للمتسولين. فأنا لست متسولاً ولا مسكينا , كما لا أعتبر نفسي لصاً أو قاطع طريق ومع ذلك فإن لي مشكلة ومشكلتي دون كلمات كبيرة أن الألم يعتصر قلبي ليس هذا جديدا بالنسبة للحياة التي أعيشها لكن الأمر في لحظات معينة يبلغ حد لا أستطيع احتماله وما دام الأمر هكذا فأن الكلمات وسيلة لإنقاذي لست متأكداً أتصور ذلك ويحتمل أن يكون الحديث خاصة معكم ألماً جديداً أتلقاه في عيونك الساخرة لا يهم قولوا أي شئ ومع ذلك يجب أن أتكلم؟)
الرواية بسيطة بحكايتها تجعل القارئ يسمع وينصت بأسلوب متميز بضمير المخاطبة ويكون متعاطفا ومحاوراً ومعاتبا وغاضبا وحزينا وساخطا على الأعراف. تتناول الرواية الحب العاثر والحظ السيئ، لكن البطل يجد مخرجات لحبه فوق اليأس من خلال قوة يبديها من داخل عقله بالتعايش مع الحب بوصفه قيمة إنسانية، أنه عشق ضمن الاحتياج الروحي له. أنه الظافر حين ينظر الى معشوقته من بعيد، لأنه يعتقد لا هزائم بالحب بل يمكن استنطاق تلك الهزائم بعلاج ملائم، أنه حوار متواصل بسرد يعتمد على البناء بلغة شاعرية يبين فيها قيمة ذاتية ممزوجة برؤى فلسفية وعقلانية تدير أحداث الرواية. لذلك يتعاطف القارئ معه ويحزن ويشفق على العاشق الذي يعذب نفسه، وما أصعب الحب على قلب رجل وجد ضالته في خريف العمر بعد ان ذهبت سنينه هباءً منثورا. لكنه يجدد الحياة بالأمل والانتظار.
يقول منيف في آخر الرواية: (الآن وقد انتهيت أشعر أن الكلمات والحروف يائسة لدرجة أنكر أن تكون ليليان في مثل هذه الكلمات، ليليان أكثر رقة أكثر فرحا وحزنا من كل ما ذكرته لكم , لكن ماذا أفعل إزاء تلك اللغة البائسة الذليلة؟ لا أملك شيئا ما زالت ليليان شامخة راكضة في ذاكرتي تتسلق دمي في كل لحظة تبكيني تفرحني لا أيها الناس أنها تنتظرني في المحطة القادمة نعم المحطة القادمة لا أعرف محطة الباص ولكنها تنتظر في مكان ما، تنتظر سألتقي بها، ولا تسخروا بالتأكيد سألتقي بها)؟
استخدم عبد الرحمن منيف أسلوب السهل الممتنع لكي يوصل ثيمة الرواية عبر لغة يتناغم فيها الإحساس والخيال لكي يربط وشائج صور ناطقة وحوار حميمي كأنه يكتب قصيدة حب في تجليات عاشق حزين بين حروفه والمكان لينتج تحفة نادرة بواقعية سحرية تشد القارئ للتوغل في عالم رومانسي أخاذ في متعة القراءة، عالم رومانسي من العشق الخارج عن المألوف في تفاصيل واقعية عاش أحداثها كثير من العشاق. أنه عالم مختلف يدفع للشعور بان القارئ معني بكل التفاصيل، وهناك صوت ينطق على النص، لذا كان السرد ينطق على لسان الكاتب وهو يبتعد قدر الإمكان عن الانفعالية بل هناك تداخل في مدلولات حسية مع اللاوعي ما يشيع الآلفة والتجانس مع ثيمة الرواية.
لقد لجأ منيف الى تنويع أسلوب الحوار لضمان استمرار الاسترسال في فهم الواقع ما أضفى دلالات من التنوع والانتقالات والتي أضافت تشويقاً حمل جانب من الشد الى معرفة الخاتمة ومعرفة اكنمال المعنى واتساع الصور الجمالية في السرد في كثير من المواقف التي رسمها ناطقة بالتعبير الواضح عما يجول في ذهن العاشق، ما دفعت الى مشاهد حسية للإفصاح عن الوصول الى الخاتمة، لذا يكون الأمل في ثنايا الانتظار، هذا الانتظار الذي يشعل جذوة الأمل لتبقى هاجسا متجددا ولا ينطفئ. لذا يبقى الترقب يتمدد في شغاف المرأة المعشوقة كما في رواية « شرق المتوسط» حيث استخدم قلق الانتظار وحركة الانفعال لكي يحبك خيوط الرواية من أولها حتى الخاتمة، أنها لعبة التعايش في الأحداث التي تشد القارئ الى معرفة المزيد من التعايش داخل الرواية، كأن القارئ جزء من الرواية بل يشارك قلق الكاتب بحبكة عالية ترسم حدود الرواية بدقة من الوصف ومحكم عبر أفكار جذابة.
استطاع منيف ان يصف كل شئ حتى التفاصيل الصغيرة عبر تنقالات سرد العاشق بعد ان دب لهيب الحب في قلبه، وظل هذا الحب يستعر من قلبه حتى بعد ان ترك الفندق وعاد الى المدينة الكئيبة، لكن « ليليان» جعلته يقطع علاقته مع النساء بعد أن رأى المرأة التي سيطرت على قلبه وأسرت وجدانه فصار يتفاعل مع صورة تسكنه لتصبح جزء منه تحت تأثير ذلك الحب الذي لم يستطيع ان يفسره. حتى صار نار من المشاعر الجياشة التي تحترق بحطب الانتظار.
أن رواية « قصة حب مجوسية» وعلى الرغم من قصرها لكن تبقى تثير أسئلة في علاقة النار بالقدسية بذلك الوهج من المشاعر الإنسانية كأنها صخرة « سيزيف» أمام شعلة الحب الذي لا ينطفئ والذي يرى أبعد من العواطف في أغوار النفس البشرية المعذبة التي تتعرض الى شحن السؤال في الترقب وفي إدراك الأحاسيس.