السليمانية ـ خاص:
الخلافات المزمنة بين الحكومتين الاتحادية وإقليم كردستان تتعقد يوما بعد يوم، فالطرفان يتناوشان حملات إعلامية مكثفة يسعى كل منهما خلالها أن يبريء نفسه من تداعيات المعاناة التي يعانيها شعب كردستان الذي أصبح على حافة كارثة إنسانية بسبب توقف رواتب الموظفين وركود الأسواق وتراكم المشكلات الأسرية بسبب الجوع والفقر..والقيادات السياسية سواء في بغداد وأربيل اصبحت تصم أذانها عن سماع صوت المحرومين ما أدى الى خروج تظاهرات الجائعين في الأيام الأخيرة بمعظم مناطق كردستان وهي تناشد الحكومة الاتحادية بالنجدة والإسراع بدفعة إنعاشية إن جاز التعبير. ومازالت الخلافات على أشدها وهذا ما أدى بالسياسي الكردي الدكتور عبد اللطيف رشيد الوزير السابق وكبير مستشاري رئيس الجمهورية أن يعلي صوته مرة أخرى لمناشدة الطرفين بالجلوس الى مائدة المفاوضات لإجراء حوار جدي لحل الخلافات والدخول في مرحلة جديدة من العلاقات تحكمها الأسس الدستورية والقانونية. وفي هذا الحوار يضع الإصبع بكل جرأة على الجرح، مؤشرا مكامن الخلل في تلك العلاقة، والحلول الممكنة للخروج من هذا المأزق العميق:
دعا برلمان كردستان الى سحب الثقة من الحكومة وتغييرها
ما هي أسباب التعقيدات التي تجعل العلاقة بين أربيل وبغداد تختل يوما بعد آخر، لا سيما والأفق لا يشي بأية بوادر لحلول مناسبة في ظل عدم استعداد الطرفين لتقديم التنازلات؟
– للأسف لا أجد سببا حقيقيا لكل هذه التعقيدات، فالخلافات ليست آيديولوجية ولا طائفية ولا إقتصادية، والسبب الحقيقي الذي أدى الى تعقيد الأزمة هو المزاج الشخصي فحسب، فإذا عدنا الى ماقبل عام 2003 ، سنجد بأن الجانب الكردي كانت له علاقات جيدة مع أطراف المعارضة العراقية بجميع فصائلها ، ويجب أن لا ننسى بأن جميع تحركات وجهود الرئيس الراحل مام جلال كانت تنصب بإتجاه تعزيز الدور الكردي في المسألة العراقية عبر تعميق أواصر الأخوة مع المكونات العراقية بمجملها. وكان الاتحاد الوطني سباقا في هذا المجال وله علاقات نضالية ميدانية مع القوى الفاعلة بالمعارضة العراقية. وكانت هذه القوى على قناعة كاملة بأن الاتحاد الوطني سيكون هو الطرف الأساسي في جهود إعادة بناء العراق الجديد، وكانت تعد الرئيس مام جلال بإعتباره أبرز الشخصيات العراقية لتولي قيادة مرحلة ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق، وهو لم يقصر للحظة بأداء هذا الدور من خلال بناء علاقات متينة مع جميع القوى العراقية وتوحيد صفوفها لمقارعة الدكتاتورية، كما أنه قام بدور كبير على مستوى المحافل الدولية لكسب دعمها من أجل القضية العراقية.
هذا قبل سقوط النظام، وماذا بعده؟
– بعد سقوط النظام السابق أعطت القوى العراقية الدور الأكبر لمام جلال وللاتحاد الوطني، حتى قبل تشكيل مجلس الحكم كانت القيادة الكردية وبشخص مام جلال متواجدة في بغداد، وكانت القوى العراقية والإدارة الأميركية والبريطانية تتشاور معه في كيفية بناء العراق الجديد وترسيخ الأسس الديمقراطية فيه. وبعد تشكيل مجلس الحكم شارك مام جلال ومسعود بارزاني وغيرهما من الكرد في هذا المجلس ، وكان دورهم فاعلا في إتخاذ القرارات الى حين تم إجراء الانتخابات البرلمانية وشكل الكرد كتلة قوية داخل البرلمان. وفي الدورة الثانية تم انتخاب مام جلال رئيسا للعراق ، وتسلم الكرد العديد من المناصب والوزارات السيادية ، وأصبح دورهم متعاظما في العملية السياسية. وتزامن ذلك مع حدوث نهضة اقتصادية واسعة في كردستان عبر حصولها على حصة 17 بالمائة من موزانة الدولة العراقية . ولكن للأسف حدثت مشاكل بسبب الأداء السيء لبعض القيادات الكردية التي ظنت بأن التغيير الذي حصل يجب أن يكرس لمصالحها الشخصية والحزبية الضيقة. وهذا ما أدى الى ظهور الصراعات والخلافات لاحقاً. ويبدو أن هذه القيادات لم تتعظ من دروس التاريخ ولهذا إرتكبت تلك الأخطاء القاتلة حين ظنت بأنها أصبحت تمتلك السلطة بكل القرارات. وما أقوله هنا ليس دفاعا عن سياسات العراق وتبرئة قادته من المسؤولية، لان جزء من المسؤولية يقع على عاتقهم أيضا.
حددت السبب الأساس للصراعات بأنه ناجم عن مزاج شخصي لبعض القادة، فمن تقصد من القادة ؟
– بالدرجة الأولى أرى بأن السيد مسعود البارزاني يتحمل الجزء الأكبر من تفاقم الخلافات بين أربيل وبغداد، ثم إنتقل هذا السلوك الى أطراف أخرى مارست نفس النهج في تحديد علاقتها بالآخرين.
ولكن السيد البارزاني لم يعد يحكم اليوم، فلماذا لا تتحسن العلاقات؟
– هذا غير صحيح، فالسيد البارزاني ما زال يمارس دوره السياسي ويمتلك صلاحيات واسعة ويدير الأمور من خلف الستار، فحكومة الإقليم ما زالت قائمة وهي بيد حزبه، ولحد الآن لم يحدث أي تغيير على سياسات هذه الحكومة.
إذن ماذا نفعل الآن لتجاوز تلك الخلافات؟
– أقول بصراحة بأن هناك قيادات كردية للأسف أصيبت بنوع من الغرور والتعالي، وباتت تفكر وتضع مصالحها قبل مصالح شعبها، وأصبحت تخوض صراعات لا تصب في مصلحة شعب كردستان، وكل هذه الصراعات تتمحور حول مكاسب شخصية والحصول على إمتيازات حزبية.. فعلى سبيل المثال، لماذا لجأت هذه القيادة الى استخراج النفط وتصديره بغياب السلطة الاتحادية ؟ اذا انه وبحسب الدستور فان النفط والغاز هما ملك للشعب العراقي عموما ويجب إيداع إيراداته في حسابات تعود للحكومة الاتحادية، ولكن للأسف ذهبت عوائده الى جيوب أقطاب السلطة. فلو كانت هناك حكومة حقيقية في الاقليم مسؤولة لكان من المفترض أن تتعامل وفقا للدستور وتلتزم بالقانون . ثم كنا بالأساس نستلم حصة 17 بالمائة من موازنة الدولة ولم تكن هناك أية مشاكل، فما الحاجة الى إستخراج النفط ؟. ولدي وثيقة تبين بأن مام جلال كان ضد هذه السياسة النفطية بإقليم كردستان، هذا من جهة. ومن جهة أخرى ما دمت تتسلم حصتك من ميزانية الدولة ، يفترض أن تدفع جميع إيراداتك الى حكومة المركز لتضمن دفع تلك الحصة سنويا. ثم أن الحصة المخصصة للإقليم هي ميزانية ، ولذلك يتوجب عليك ان تجري نهاية كل سنة تصفية حسابات وتحدد بالأرقام كيف صرفت تلك الميزانية ، فهذا قانون وليس الأمر أن تدفع لي ولا تحاسبني، هذه دولة لايمكن التصرف معها بهذا الشكل. ولذلك أٌقول بصراحة أن الطرفين يتحملان المسؤولية ، فكان على حكومة الإقليم أن لاتتصرف بهذا الشكل غير القانوني مع حصتها من الميزانية، وكان على الحكومة الاتحادية أيضا أن لاتسكت عما حصل، ولكن بسبب الفساد في الطرفين تم التغاضي عما جرى.
قد يكون موقف الحكومة الاتحادية مبررا لتحاشي الصدام مع قيادة الإقليم، لا سيما وهي كانت تخوض حربا ضد الإرهاب والطائفية ما أدى الى تغاضيها عن تصرفات حكومة الإقليم؟
– نعم قد يكون الأمر كذلك، ولكن هذا الأمر لايعفيها من المسؤولية، والنقطة الخلافية الثانية التي أود الإشارة إليها تتعلق برواتب البيشمركة. وقيل مرارا بأن الحكومة الاتحادية أوقفت صرف تخصيصات البيشمركة ، ولكن حسب علمي لم يكن الأمر كذلك، فهذه الحكومة وافقت على دفع تخصيصات البيشمركة، ولكن ليس كقوات بيشمركة تابعة للأحزاب، بل بإعتبارها قوات حرس الحدود وهذا مثبت في الدستور العراقي، وميزانية هذه القوات يجب أن تدفعها حكومة الإقليم، أما البقية من قوات البيشمركة والتي يفترض أن تكون جزءا من المنظومة الدفاعية العراقية فميزانيتها تدخل ضمن ميزانية وزارة الدفاع بالحكومة الاتحادية. ولكن يجب أن تكون تخصيصات هذه الحصة معلومة، من حيث عدد الفرق والألوية وعدد أفرادها وتسليحها وتجهيزها وما الى ذلك.
الإقليم الآن يعاني من كارثة اقتصادية تجاوزت حدود الأزمة، والمواطنون اليوم يعانون من الفقر والفاقة والجوع، ألا يفترض بالحكومة الاتحادية أن تتحمل مسؤولياتها تجاه شعب جائع لا يجد قوت يومه؟
– المسألة ليست مجرد مسؤولية أخلاقية، بل هذا فرض عين على الحكومة الاتحادية أن تعالج المشكلة، فالناس لاعلاقة لهم بالخصومات والخلافات الحزبية أو السياسية، فلتتحمل الحكومة الاتحادية مسؤوليتها بمحاسبة الفاسدين وسراق المال العام، ولكن لايجب أن تترك شعب كردستان لمصير مجهول، فرئيس الوزراء هو رئيس وزراء لكل العراق وتقع عليه مسؤولية كبرى في معالجة مشكلات الناس في كردستان. نعم هناك فساد وعليه أن يحاسب الفاسدين ويسترجع الأموال منهم، ولكن معاقبة الشعب بجريرة الآخرين أمر غير مقبول ويخالف أسس الدستور . “لقد أثرت مسألة رواتب موظفي كردستان في أكثر من مناسبة ، وها أنا أعيد إثارتها مرة أخرى وأصر على المطالبة بدفع رواتب الموظفين، وأرفض أية تبريرات أو أعذار تصدر من الحكومة الاتحادية”. ولا أعتقد بأن هناك شعبا مثل الشعب الكردي تحمل ما يجري له منذ ثلاث سنوات من تقليص الرواتب ووقفها في بعض الأحيان. والجزء الأكبر من مسؤولية هذه الإجراءات التعسفية تتحملها حكومة الإقليم، فلا أحد يعرف ما هي إيراداتها وكيف تصرف والى أين تذهب عوائد النفط والضرائب في الإقليم .
الحكومة الاتحادية تطالب بتسليم جميع المنافذ والإيرادات الجمركية، وكذلك جميع العوائد النفطية بالإقليم، الى جانب الضرائب والرسوم وغيرها، السؤال هو “إذا وافقت حكومة الإقليم على كل هذه الشروط، فماذا يتبقى لها من هيبة وسلطة في الإقليم” ؟
– لاتنسى بأن حكومة الإقليم هي تابعة للحكومة الاتحادية، وهذا أمر اتفقنا عليه وثبتناه في الدستور الذي شاركنا نحن في صياغته .
لكن ألا يشكل ذلك تهديدا مباشرا على الإقليم ككيان مستقل عن بغداد؟
– هناك توزيع للصلاحيات والسلطات في الدستور، فهناك صلاحيات حصرية مرتبطة بالحكومة الاتحادية ، وأخرى خاصة بحكومة الإقليم، فلتلتزم حكومة الإقليم بواجباتها تجاه المركز عندها تحل جميع المشاكل وفقا للدستور. في هذا البلد كل شيء مكتوب بالوثائق ، ولكن المشكلة أن لا أحدا يلتزم به . طيب إذا كانت هذه المشاكل والخلافات قائمة منذ أكثر من عشر سنوات، فلماذا لم تعمل حكومة الإقليم لمعالجتها عبر الدستور؟.
حاولت حكومة الإقليم ذلك، وخاضت العديد من جولات التفاوض مع بغداد ولكنها لم تثمر عن شيء!
– أنا كنت في بغداد ورأيت عشرات المرات وفود الإقليم تأتي الى بغداد وتجلس على مائدة المفاوضات لساعة أو ساعتين وتتحدث عن مشكلة النفط والبيشمركة والعوائد، ثم تحمل حقائبها وتعود الى أربيل. ويخرجون في وسائل الإعلام لاحقا ويدلون بتصريحات طنانة رنانة، سنفعل كذا ونعمل كذا ولكن من دون أية نتيجة . لو أنهم كرسوا ربع أوقات أسفارهم الى أنقرة واسطنبول في سفرهم الى بغداد لكانت جميع المشكلات تحل عبر التفاوض. السؤال هو كم مقترحا قدمه برلمان كردستان لحل المشاكل العالقة ؟ أين هي مقترحات الأطراف السياسية ؟ لا شيء!. يجب أن يتقدم البرلمان بحلول لتلك المشاكل ويسلمها للحكومة لكي تتفاوض عليها مع بغداد. كم مرة ذهبت رئاسة برلمان كردستان الى مجلس النواب لمناقشة تلك المشاكل و ايجاد حلول مشتركة للنقاط الخلافية ؟. مرة أخرى لا شي !. كيف يمكن حل كل هذه الخلافات العميقة بين الحكومتين بمجرد زيارة رئيس حكومة الإقليم لساعة أو ساعتين ؟. أو كيف يمكن حل الخلافات النفطية بزيارة واحدة لوزير النفط الاتحادي الى أربيل؟. هذه المحاولات ليست جدية ولا تسمن أو تغني من جوع .
مع كل ما تحدثت به، هل ترى آفاقا لحل تلك الخلافات؟
– لا أرى ذلك ، فحكومة الإقليم لاتمتلك الكفاءة السياسية ولا الإرادة الجدية لحل مشاكلها مع بغداد، فلكي نتجاوز هذه المرحلة وندخل بمفاوضات جدية ومثمرة مع بغداد، يجب أولا تفعيل دور برلمان كردستان. فالبرلمان هو مؤسسة منتخبة من الشعب ويتمتع بالشرعية، وعليه ينبفغي أن يكون له دور ، ويجب أن يجتمع البرلمان ويعرض كل الخلافات على طاولة البحث ويصوغ الحلول اللازمة لها. ويذهب وفد من البرلمان الى بغداد للتنسيق مع مجلس النواب للبحث في الحلول الممكنة . كما يجب على البرلمان أن يسعى لسحب الثقة من الحكومة الحالية، فهذه الحكومة فشلت في أداء مهامها، ويفترض بالبرلمان أن يعمل على تغييرها بحكومة كفاءات أو تكنوقراط، المهم أن تكون حكومة مخلصة للشعب .. حتى الحكومة الاتحادية باتت على قناعة بأن حكومة الإقليم لم تعد تمثل الشعب الكردستاني، وتعلم بأنها حكومة حزبية تعمل لمصالحها الشخصية ، فلو كانت هناك حكومة مخلصة فإنها ستضطر الى التعامل معها بكل إحترام .
هذا يعني بأن الخلل يكمن فينا وليس بالحكومة الاتحادية؟
– لا أقول بأن قادة بغداد من الملائكة. هم أيضا لهم إخفاقاتهم ومشاكلهم، ولكن كان من المفروض أن لا تسكت الحكومة الاتحادية عن تعطيل البرلمان في كردستان ولا عن الكثير من الإجراءات غير القانونية التي أقدمت عليها حكومة الإقليم سواء كانت إجراءات سياسية أم حزبية أو إقتصادية، فكردستان ليست دولة مستقلة، بل هي جزء من دولة اتحادية وفق الدستور، ولذلك يفترض أن يكون للحكومة الاتحادية دور بهذا المجال .
إذا حققت حكومة الإقليم كل هذه الأمور وذهبت الى بغداد بوفد مفاوض جديد، هل من الممكن أن تحل جميع هذه الخلافات والمشكلات القائمة؟
– نعم أعتقد ذلك، فإذا لم تتجاوب الحكومة الاتحادية لحل لتلك المشاكل، عندها سنكون قد كسبنا العالم كله الى جانبنا ، وستتبين حقيقة مواقف وسياسات الحكومة الاتحادية أمام الجميع..