د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الحلقة 13
تكريم الرفاق القدامى – شارة وسيارة
يوم الأربعاء 13 من شباط / فبراير 1985 أقيم في بغداد حفل قلد فيه صدام “شارة الحزب” لمجموعة من الرفاق الذين مضى على عضويتهم في عام 1955 وحتى عام 1960 وهم كثيرون , فلم اجد سوى اسمين لرفيقتين اثنتين وعدد قليل من الرفاق لا يتجاوز العشرة !
فماذا حل بالأخرين؟!
قد نجد التفسير كله او بعضه في الاقل بالرجوع الى نص قرار القيادة القطرية الذي يعني ضمنًا استبعاد الرفاق القدامى الذين خرجوا من الحزب او وقفوا ضد “النظام” او ممن شابت مسيرتهم “شائبة”!
ومن ناحية أخرى لم ترد في القائمة اسماء رفاق قدامى معروفين صعدوا الى درجات حزبية متقدمة وضلوا في مناصب رسمية عالية في السلطة حتى ايامها الاخيرة . ومن المحتمل ان يكمن التفسير في ان هؤلاء ما زالوا ينعمون بما هو ارفع من “شارة الحزب” او ان مكانتهم الحالية الرفيعة لا تسمح بادراجهم ضمن تلك القائمة .
انتابتني الدهشة من ورود اسمي في القائمة , وتفسيري ان قرار القيادة جاء في اوائل عام 1985 ولم يكن قد مضى على هجرتي الى المانيا سوى عام ونصف العام , وكنت خلالها مختفيا عن الانظار ولم يبد من طرفي موقف مضاد للنظام في العلن . وربما ساعد هذا بعض اعضاء اللجنة الحزبية التي تولت عملية الاختيار على ابقاء اسمي ضمن القائمة , وقد يكون هؤلاء البعض ممن لا يحملون ضدي الضغائن , او لسبب محاولة القيادة اسباغ صفة التسامح على موقفها في محاولة لتطميني ودفعي الى العودة الى العراق , وهو الامر الذي كان مستحيلا علي الانزلاق فيه .
بعد مرور نحو نصف عام على صدور ذلك القرار اعلمني شقيقي هاشم المقيم في بغداد , الذي وافاه الاجل عام 2004 , ان القيادة قررت تقديم سيارة شخصية هدية لكل من منح شارة الحزب , وتسلمها من الشركة العامة للسيارات.
ونتيجة الحاح الاخ علي اغتنام الفرصة وتوكيله بتسلم السيارة كي تعينه على تصريف اعماله , اجريت الوكالة المعنية مصدقة من السفارة العراقية في بون بتاريخ 15/7/1985 . لكن اخي فوجئ بجواب الشركة ان التعليمات الصادرة اليها تلزم تسليم السيارة المهداة الى الشخص المعني فقط ولا يجوز التوكيل في هذا الامر ! وبهذا اسدل الستار على مسألة السيارة!
بعدها بفترة حاولت الحصول على شارة الحزب الممنوحة لي للتعرف عليها والاحتفاظ بها للذكرى , وان كانت الذكرى غير خالية من الالام . فقدمت طلبا الى مكتب امانة سر القيادة القطرية في بغداد عبر السفارة العراقية في بون راجيا تزويدي بشارة الحزب عن طريق السفارة , ولكن لم يرد جواب ولم ترد شارة او اشارة !
صدام وحافظ الأسد
لاشك ان التقارب بين العراق وسوريا على طريق قيام اتحاد بينهما يصب في مصلحة كل من البلدين كما يصب في المصلحة العربية على المستوى القومي كما لم يعد خافياً ان القوى الاجنبية تتخذ مواقف تجاه هذا التقارب تتراوح بين التحفظ والمقاومة.
ومما يؤسف له ان الاعتبارات الشخصية لبعض القياديين في البلدين وقفت من حيث النتيجة في مصب القوى الاجنبية الرافضة لهذا التقارب ولا يغير من هذا القول فترات اشهر العسل التي شهدها البلدان ، التي سرعان ما طوتها ازمات حقيقية وصلت الى محاولات الاطاحة بالمقابل واستعملت فيها شتى اساليب العنف.
وصل تأزم العلاقة بين البلدين الى الذروة في حالتين:
. الاولى- حين قام صدام بإعدام رفاقه الواحد والعشرين يوم 8/8/1979 واتهام سوريا علانية بالضلوع بمحاولة قلب نظام حكمه.
. والثانية- حين دخل العراق بحرب مع ايران وقامت سوريا بغلق الانبوب الناقل للنفط العراقي عبر اراضيها يوم 10/4/1982 حيث شن صدام في خطاب مسهب في المجلس الوطني العراقي في اليوم التالي- 11/4/1982- اعنف هجوم على الرئيس السوري الاسد، متهماً اياه بالعمالة والتخريب منذ انقلاب عام 1963 وحتى ذلك التاريخ.
وبهذا اسدل الستار على آخر ما كان باقياً في نفوس الناس من امل للاتحاد بين البلدين.
لا أريد هنا بيان الزيارات الرسمية عالية المستوى بين البلدين وتبادل الوفود الشعبية بل والشروع بتهيئة المستلزمات القانونية لاقامة الاتحاد بينهما وغيرها من الخطوات، فتلك معلومة للجميع لكني اود اضافة احداث شهدت عليها في كلا البلدين:
من أوجه التقارب بين البلدين
خلال الفترة التي كنت فيها محافظاً للبنك المركزي العراقي 1976- 1978 قرر البنك اصدار فئة نقدية جديدة بقيمة 25 ديناراً لأول مرة. وبعد اكمال تصميم وجهي الورقة النقدية اغتنمت فرصة لقاء مع رئيس الجمهورية البكر فعرضت عليه الامر واستحسن التصميم ألا أن البكر عاد بعد بضع ايام طالباً عدم كتابة اسم “البنك المركزي العراقي” على هذه العملة الورقية والاكتفاء بذكر البنك المركزي فقط وقال البكر ان العراق قادم على الوحدة مع سوريا فلماذا يكتب على الورقة النقدية الجديدة اسم البنك المركزي العراقي هذه العملة يمكن ان تصبح عملة البلدين.
اوضحت لرئيس الجمهورية المتطلبات القانونية لإصدار العملة بحكم التشريع الوطني الحالي وعضوية العراق في صندوق النقد الدولي ولهذا يتعذر الاخذ برغبته التي يكن لها الانسان كل التقدير والاعتزاز واخبرت البكر ان ما يمكن الاتفاق عليه بين الجانبين مستقبلاً بعون الله سيتناول جميع الفئات النقدية الاخرى التي تحمل اسم البنك المركزي العراقي وينطبق الحال ايضاً على الفئات النقدية السورية وبعد اخذ ورد اقتنع البكر بعرضي على مضض وانصرفت مودعاً اياه وانا اقرأ على وجهة عملات الالم.
ومن أوجه التنافر
في شهر اذار/ مارس 1972 قام صدام بزيارة رسمية لسوريا على رأس وفد ضخم وكنت عضواً فيه حاملاً معه قضايا عدة من بينها مد انبوب اضافي للنفط العراقي عبر الاراضي السورية وتحديد حصة البلدين في مياه نهر الفرات فكان ان حدثت خلال الزيارة واقعتان امتعض صدام على اثرهما كثيراً.
كانت الاولى حين انهت اللجان المشتركة احدى جلسات العمل في وقت متأخر من الليل وبينما كان الجانب العراقي يهم بمغادرة القاعة الى مكان الاقامة لم نجد السيارات الرسمية المخصصة لنا فيما انطلق الجانب السوري بسيارته منصرفين وقفنا فترة في الساحة مندهشين لانعرف كيف ستنتقل فيما كانت الشوارع خالية والمدينة تغط في نوم عميق.
ولحسن الحظن مرت سيارات نقل بضائع محملة بالخضر المتجهة الى السوق عند الفجر فأوقفناها وانتقلنا الى الفندق بأجور بسيطة وحين علم صدام بالأمر اغتاظ كثيراً واعدّ العمل استهانة بشخصه.
اما الحادثة الثانية فكانت بمنزلة القشة التي قسمت ظهر البعير فقد كان صدام يسعى من خلال هذه الزيارة ان يحسم الموضوع العالق بشأن حصة كل من العراق وسوريا في مياه نهر الفرات بعد فشل المحاولات التي بذلت في الماضي في حل المسألة وتفادي شحة مائية في العراق نتيجة مشاريع سدود المياه السورية على نهر الفرات.
لم تنجح زيارة صدام في تمكين الفنيين والخبراء في بداية المباحثات من تحقيق النجاح المطلوب ما أدى الى لجوء صدام لحل المسألة على مستوى سياسي عال مع سوريا وقبل على مضض بجعل حصة العراق 65% مقابل حصة سوريا 35%.
بعد ان تم التفاهم على حصة كل من البلدين باشر الوفدان بإعداد صيغة الاتفاق وبعد تهيئة مراسيم التوقيع اخبرني الطرف السوري قبل موعد التوقيع بساعة ان وزير الري السوري يمتنع عن توقيع الاتفاق وسألت عما اذا كان بالإمكان قيام مسؤول اخر بالتوقيع عليه لتجاوز المشكلة فجاء الجواب بالنفي ما أدى الى مسارعتي لإخبار صدام بذلك وهكذا ساد الوفد العراق الوجوم بسبب تراجع غير مألوف عن تفاهم مسبق مع اعلى المستويات.
امتقع وجه صدام وعدّ الموقف السوري نسفاً لزيارته وتجريحاً مقصوداً لشخصه وغادر الوفد العراقي سوريا من دون التوقيع على اي محضر او اتفاق متوجهاً مباشرة الى مصر في زيارة رسمية لها.
كان صدام كلفني في اواخر عام 1972 بنقل رسالة شفوية الى الرئيس حافظ الاسد تتعلق برسالة بعثتها اليه القيادة في بغداد في وقت سابق وبقيت من دون رد.
قابلت الاسد بمفردي في صالة داخل قصر الرئاسة تتميز بالتواضع والاناقة في ترتيب الاثاث سوري الصنع المشهور وبعد تبادل عبارة التحية نقلت اليه الامر المتعلق بتصور القيادة لصيغ العلاقة بين البلدين وان صدام مازال منتظراً الجواب.
كان الاسد يستمع لحديثي بهدوء وبعد انتهائي جاء جوابه ملفتاً من حيث تصنعه الهدوء في اثناء الحديث فيما كانت خلاصة رأيه ان الجماعة في بغداد ليسوا صادقين ولا تتوفر لديهم النوايا الحسنة!
بعد رجوعي الى بغداد ولقائي صدام تحاشيت نقل عبارات الاسد حرفياً تجنباً لردة فعل تؤدي الى تأزيم العلاقة بين البلدين وفضلت نقل المضمون بأسلوب مخفف وبعيدة عن الاثارة مع ذلك فقد احاط وجه صدام بعض الوجوم وظل مستمعاً طيلة الوقت ثم ودعته من دون ان اسمع منه أي تعليق والغريب انه بعد ثلاثة ايام من نقلي جواب الاسد لصدام اتصل الدكتور الياس فرح هاتفياً مستفسراً مني عن جاوب الاسد فأخبرته انني نقلت الجواب الى صدام واصر الياس على معرفة الجواب فأعلمته به وبالصيغة ذاتها التي ابلغت صدام بها.
اثار استفسار الياس الدهشة في وتساءلت مع نفسي هل انه وغيره من اعضاء القيادة القومية لا يصدقون صدام بما ينقله اليهم ويريدون التأكد مني مباشرة؟! ثم الا يعرف الياس ان اجهزة الهاتف السرية لم تعد سرية ويجازف بهذا الاتصال الهاتفي بقضية تخص الثقة بشخص صدام ذاته؟!