نقاوة الأجناس والأنواع الأدبية
عبد علي حسن
* لعل الدافع لكتابة هذا المقال، هو الجدل والسجال الواسع الذي يرافق ملتقياتنا الثقافية، حول نقاوة الأجناس والانواع الأدبية، التي ما يزال قسم منها محتاجا الى وضع النقاط على الحروف واللمسات النهائية، على وفق التطور الحاصل في الجهد النقدي العراقي، والإحاطة بمجريات الأجناس والأنواع الإبداعية، على وفق مرجعيات تنظيرية وإجرائية عالمية، مع الأخذ بنظر الاعتبار وفود هذه الأجناس من الآخر، وتوافر امكانية احداث تفاعل محلي معها، لتمتلك هذه التجارب هويتها المحلية على نحو محافظ على نقاوة الجنس والاضافة له.
و تعد قضية وضع توصيف اجناسي للنص الأدبي / شعر/قصيدة نثر/قصة / قصة قصيرة جدا/ رواية، واحدة من القضايا المهمة في النظرية النقدية، وتتبدى أهمية هذا الإجراء النقدي من ضرورة معرفة المعيارية التي يتم وفقها مقاربة النصوص الإبداعية نقدياً، كما انها تكشف عن قدرة الناص في معرفة آليات الجنس الذي يكتب على وفقه نصه الإبداعي، وفي كلا الحالين فإن من الضروري بل ومن الإلزام بالنسبة للناقد ومبدع النص معرفة آليات ومكونات وأركان الأجناس الأدبية كيما تكون بوصلة سليمة في تخليق النص بالنسبة للمبدع وعدة للدخول الى النص بغية تحليله والوقوف على مواطن الابداع فيه وكذلك مواطن ضعفه بالنسبة للناقد، ولاشك بأن هناك عملية تطور، وإضافة تجري على البنى المكونة لهذا الجنس أو ذاك لاحقاً عدت تنويعات بنيوية استدعتها حاجة مبدع النص لشكل جديد، وإسلوب جديد لا يأتي من فراغ قدر ولادته من رحم جنس الأم الذي استكمل آلياته مستفيداً من محاولات سابقة بالإمكان عدها ممهدات لظهور الجنس حائزاً على جميع مكوناته القارة والمتعارف عليها، وبهذا الصدد فإن ما يمنح هذه العملية مشروعيتها هو توافر عنصرين مهمين اولهما القصدية وثانيهما التجاوز، فقصدية بودلير مثلا في كتابة قصيدة النثر ومعرفته بمحاولات سابقيه، وتجاوزه لمحاولاتهم التمهيدية هي التي اوصلته الى صياغة هذا الشكل الجديد، الذي ارتبط بمفاهيم الحداثة وحاجة التعبير عن حركة الأفراد الاجتماعية في محيط المدينة والتناقضات الحاصلة فيها بعد صعود البرجوازية الصناعية كقوة اقتصادية وسياسية لتعلن بداية ظهور الحداثة في المجتمعات الغربية في اواخر القرن التاسع عشر ، وكل المحاولات التجديدية التي أعقبته لم تكن الا اضافات تنويعية لم تخرج عن الأنساق الداخلية والخارجية المكونة لقصيدة النثر كجنس جديد ، كما أن جهود الشاعرة العراقية نازك الملائكة والسياب ورواد حركة الشعر العربي الحديث لم تكن منبثقة من فراغ بل استفادت من ممهدات سابقة حاولت الخروج على الانساق التقليدية للقصيدة العربية القديمة ، سواء ماتضمنه التراث الشعري العربي كالبند او المحاولات الحديثة لعلي أحمد باكثيرو محمد فريد ابو حديد،
على ان هذه المحاولات لم تكن بدافع القصدية في تخطي الشكل التقليدي لذلك لم تعقبها محاولات مكررة لتضع حجر الأساس، وحينما توفرت عند نازك قصدية الخروج على تقليدية القصيدة العربية بفعل التحولات الاجتماعية للمجتمع العراقي والعربي بعد الحرب العالمية الثانية فإنها استفادت من تلك الممهدات وتجاوزتها الى فعل التأسيس عبر تكرار التجربة من خلالها او من خلال محاولات الرواد الآخرين لتظهر قصيدة التفعيلة في خمسينيات القرن الماضي كممثلة شرعية لحالة المجتمع العراقي الجديدة التي اغتنت بمضامين جديدة صار معها وجود القيود التكوينية في القصيدة التقليدية عائقاً أمام استيعاب المضامين التي افرزتها طبيعة التحول في المجتمع العراقي بعد الحرب العالمية الثانية، وكل ماظهر من محاولات واضافات على جسد قصيدة التفعيلة انما عدت تنويع وتجديد لم يخرق البنية المكونة لهذا النوع الشعري الذي وضعت اشتراطاته نازك في كتابها المهم (قضايا الشعر المعاصر)، ولا شك بأن تلك التنويعات والاضافات لم تكن وضعاً مزاجياً للشعراء الذين اسهموا في رفد تجربة قصيدة التفعيلة بإضافات استجابت لتحولات البنية الاجتماعية واتساع مرجعية الشاعر الفكرية والجمالية وضرورة بحثه عن الجديد اسلوبا وشكلا، وبهذا الصدد نذكر اسهامات وجهود شعراء الستينيات للارتفاع بالمستوى التقني والفكري للقصيدة العراقية والعربية آخذين بالحسبان استجابة هذه الجهود للمتحول المحلي والعربي والعالمي والتي كانت سببا في استحداث تلك الآليات الجديدة وتجاوزها في منجز الأجيال اللاحقة الذين التحق اكثرهم الى ركب قصيدة النثر، حاملين تجاربهم الشعرية التي أضرت كثيرا في ما كتبوه على انه قصيدة نثر فظلت آلية التشطير الهيكل الشكلي الذي قامت عليه قصائدهم التي لم تكن الا شعرا محضا منزوع الوزن والقافية بالإمكان عده شعراً حراً ترسم خطى التجارب الغربية ممثلة في اجتهاد والت وايتمان الذي كان له السبق والريادة الفنية لهذا الجنس الشعري الذي اطلق عليه تسمية (الشعر الحر)، الذي يختلف كثيراً عن شعر التفعيلة الملتزم بالوزن والقافية، وهنا تتبدى لنا خطأ تسميته بالشعر الحر، الذي توصل اليه وايتمان، وأضاف له الكثير ت.س. اليوت، اذ ابتعدت القصائد عن اشتراطات منح جنس قصيدة النثر سماتها المميزة فظلت روح الشعر على مستوى الإيقاع واللغة، تنهل من تجاربهم الشعرية السابقة، اذ ان التش طير (كتابة النص على وفق نظام الشطر)، يبقي النص محافظاً على الايقاع الخارجي فضلا عن ابتعاده عن تكريس التتابع الجملي للنص الذي يضع النص في هيئة كتلة/ فقرة نثرية تتوهج بالشعر، وهذا ما يعد حجر الزاوية في بنائية قصيدة النثر، لذا فإن أي خروج عن هذا النسق البنائي، انما يعني الخروج من هذا الجنس، ولعل امتداد هذا الاشكال منذ تجارب مجلة شعر التي تبنت مشروع قصيدة النثر العربية منذ خمسينيات القرن الماضي من خلال تجارب ادونيس وانسي الحاج والماغوط، نعده سببا في الإشكالية التجنيسية لما كتبه هؤلاء الشعراء ومايكتبه الكثيرون حتى الآن، وقد كشفت مجريات الملتقيات التي اقيمت لقصيدة النثر في العراق عن ظهور السؤال المتعلق في صحة مايكتب على انه قصيدة نثر، وبالإمكان استثناء بعض التجارب المهمة، التي عدت قصائد نثر صحيحة التوجه والبناء كمشروع جماعة كركوك /فاضل العزاوي/سركون بولص/ صلاح فائق، وتجارب قليلة اخرى لشعراء آخرين بهذا الشأن، وهو ماشكل ارتباكا لدى كل من الناقد وكاتب النص والمتلقي على حد سواء في التعرف على هوية النص الاجناسية،وهنا تتبدى على نحو واضح غائية/ علة معرفة هوية النص الإجناسية، اذ ان فاعلية النص المعرفية والجمالية ليست في الشكل وانما في مبررات الجنس الداخلية التي استدعت ذلك الشكل، فمعرفة الكاتب بقوانين وآليات الجنس الذي وجد فيه النص نفسه وتجربته ستمكنه من تحقيق جدلية الشكل/المضمون بشكل صحيح ويؤشر في الوقت نفسه الى الوعي بالكتابة بعدها مفصلا تأريخيا يمر به الكاتب والمجتمع، الذي ينتمي اليه، وكذا الأمر بالنسبة للناقد الذي عليه معرفة الحدود الإجناسية لكل جنس ادبي كيما يتمكن من مقاربة النصوص الابداعية مقاربة سليمة يتم وفقها تحليل النص على وفق آليات الجنس الأدبي الذي ينتمي اليه عبر مايتيحه له المنهج النقدي الذي يستعمله في التحليل .
وفي الوقت الذي نشير فيه الى غائية التجنيس النصي وأثرها في تطور وتقدم العملية الإبداعية في هذا الجنس او ذاك، فإن دعوات النص المفتوح بعده نصاً لا إجناسياً لاتزال قائمة، الا ان التجارب المطروحة عراقيا وعربيا نادرة وبعيدة عن الموجهات البنائية لهذا النص، وربما يصل الكتاب الى طرح تجارب صحيحة تمثل النص المابعد حداثي، ولكن بعد حل الإشكاليات التي ماتزال عالقة ومؤثرة في نقاوة الاجناس المطروحة في المشهد الشعري العراقي المعاصر، وكذا الأمر بالنسبة للنص السردي الذي يتوزع على الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، وهذا النوع الأخير يعد إشكالية كبيرة تتمثل في خروج النصوص المكتوبة على النسق البنائي الذي عرفت به القصة القصيرة جداً على يد ناتالي ساروت منذ ثلاثينيات القرن الماضي وارتباطها فيما بعد بالمشروع التحديثي للرواية الفرنسية الجديدة، ويبدو أن اشكالية التجنيس لهذا النوع السردي لاتزال قائمة وذات أثر ملحوظ في ماينشر من قصص قصيرة جدا تعاني من ابتعاد عن الانساق البنائية التي تمنح هذا النوع حدوده الاجناسية.
اننا اذ نلفت النظر الى هذه الظاهرة، فإننا نبغي وضع المنجز الابداعي أيا كان جنسه ونوعه في مساره الصحيح، كيما يكون خطوة سليمة وأثراً يتم استيعابه وخلق مكونات تجاوزه، وبذا ستردم الفجوة بين المنجز والجنس، لتتقدم عجلة الأبداع باتجاه التطور والفاعلية.