د.مظهر محمد صالح
حالفني الحظ في مطلع حياتي الاكاديمية العالية من سبعينيات القرن الماضي، ان التقي في رواق الجامعة بزميل عمل يتمتع بشخصية لامعة، وشديدة الهدوء، وصارمة الفكر، لم تحل بها بعد هزائم الحياة، وهو مازال وقتذاك يمسك بيقظته الملتهبة، زعامة سياسية يسارية شديدة الحساسية، منغمسة بهوس الحرية والسلم، وتحيط بها في الوقت نفسه، مظلة التهديد بالهزيمة والتنكيل السياسي، وبداخله شكيمةَ، وعزماَ يحظيان بالأمن والأمان، والازدهار، والتطلع الى المستقبل.
حدثني مهدي الحافظ الدكتور الشاب المتخرج حديثاً من واحدة من الجامعات الاوروبية العريقة، مبتسماً ليقول: إن الامم الفتية لا تقف اطماعها عند حد، وان البلاد سائرة يا مظهر على اعداد شعب، بقتال المجهول، وهو يخوض باحثاً عن اهداف ضائعة، فإياك ان تفقد روحك في هذه الموجة من الفكر (الدنكشوتي)، وتضع الثقة بالآخرين، ممن يقاتل نحو المجهول.
واعلم ان البلاد ستخسر مركز ثروتها المادي، وميزانها الإنساني، متحولة الى كتلة هائمة من الخصوم، او المطلوبات السالبة الثروة، وان مستقبلها هو العبث بموجودات الامة واصولها!!. استمعت بيقظة المنتبه، وبحذر الشباب، الى تلك القوة الانسانية الشامخة وهي تتنبأ بما سيحل من مصير داكن لبلادنا، سجلته ثلاثة عقود ونيف من التنمية الضائعة، وخسارة أكثر من جيل على التعاقب بين القتل، والموت، والتشريد، وهجر الأوطان، تخللتها حروب ممتدة لم تضع اوزارها الا قريباً.
تحول حديث العقل مع المفكر المناضل مهدي الحافظ في حوار السبعينيات، الى الشأن المدرسي، او الأكاديمي الاقتصادي، يوم كانت الامم الصناعية تصارع ذاتها، في ظاهرة اقتصادية افرزها النظام الرأسمالي سميت وقت ذاك: بالركود التضخمي. فثمة مدرستين رئيستين في الاقتصاد، ناقضتا أحدهما الاخرى في تفسيرهما للركود التضخمي. فالمدرسة الاولى وهي المدرسة الكنزية، والتي ترى ان التضخم هو الوسيلة المشجعة للطلب، او الانفاق الفعال الذي سيحرك دواليب الاستعمال، وتشغيل قوة العمل، ورفع معدلات النمو الاقتصادي .
في حين ذهبت المدرسة النقودية (مدرسة ميلتن فريدمان في شيكاغو)، الى ان الافراط النقدي، وضعف الانضباط في نمو عرض النقد، يؤدي لامحالة الى ارتفاع المستوى العام للأسعار من دون ان يسبب نمواً في الإنتاجية، او الطلب في الامد البعيد، ذلك بسبب التوقعات المكيفة للتضخم وتعديل الاجور الصاعدة باستمرار.
وان هذا الامر يفضي الى تضخم يصاحبه ركود في نمو الناتج المحلي الاجمالي.
هنا وقف الراحل المفكر مهدي الحافظ، وهو يستعرض معي وبولع شديد، تناقض المدرستين.
فسياسات المدرسة النقودية قادت من خلال سياسات ضبط عرض النقد الى سياسات فائدة منفلتة، شهدت فيها معدلات الفائدة ارتفاعاً بلغ مرتبتين عشريتين، تسببت في ترسيخ الركود الاقتصادي، جراء ضعف القدرة على تحفيز النمو في الاستثمار الحقيقي.
كما حافظت المدرسة الكنزية في تفسيراتها على معدلات تضخم عالية من دون توافر سياسة محسوسة، تساعد في ارتفاع النمو الحقيقي في الناتج المحلي الاجمالي للأمم الصناعية، او خفض مستويات البطالة فيها، والتي بلغت مرتبتين عشريتين ايضاً.
وكان الراحل يعلق انه لا المدرسة النقودية تجاوزت في سياساتها حالة الركود التضخمي، بسبب سياسات الفائدة، والتوقعات التضخمية المصاحبة من جانب قطاع الأجور، ولا المدرسة الكنزية قد تجاوزت معدلات البطالة المرتفعة باعتماد سياساتها التضخمية.
وقد علق الراحل بان مشكلتي الانتاج والتوزيع ستبقى تلازم النظام الرأسمالي، وأزمته المستمرة.
وهنا شكلت المدرستين مفارقة العصر الاقتصادي الحديث في تفسير الظواهر الرأسمالية، كقوة فيزيائية جامدة الخواص ولم تدرك التفسير السلوكي البيولوجي المتحرك الخواص، في تفسير ازمة الرأسمالية.
مرت قرابة ثلاثة عقود لم التق بها صديقي المناضل والمفكر مهدي الحافظ، الا في العام 2004 ، عندما اصبح وزيراُ للتخطيط، بعد ان تبدل النظام السياسي في العراق وعاد من غربته التي استغرقت سنوات حياته، ليعيش في وطنه، ويتطلع الى المستقبل، ويواصل مسيرته لبناء العراق المزدهر، ولكن مضت السنوات بسرعة لتحتضنه تربة الغربة، ويغطى جسده الطاهر باديم الأرض في يوم مماته في خريف العام الحالي 2017 .
واجه الصديق المفكر مهدي الحافظ بأول قضية اوجعت وجدانه وضميره وهو يردد: الضمير صوت الحق..وتنتهي سيادتي حيث يبدأ عمل ضميري، ذلك يوم تم اعتقالي، انا خلافا لصوت الحق، والقانون، واعلاء كلمة الباطل، واودعت خلف قضبان سجن اظلم زوراً وبهتاناً، ولاسباب سلوكية مسمومة ذات دوافع شخصية (شابته أمراض اشتقت عقدها التاريخية) من ذلك الجيل الذي عرفه مهدي الحافظ في اول لقاء لي معه في سبعينيات القرن الماضي . يوم قال: انهم اقوام وضعت الثقة بهم ليقاتلوا المجهول، ويسعون وراءه، والبحث عن اللا شيء لكي يخسروا الحاضر والمستقبل، في اختلال ميزان الثروة الانسانية.
وقد ظل العمود الذي كتبه في صحيفة الصباح الجديد، وانا خلف القضبان، اشعاعاً هز الضمائر الحية كلها وهو ينشد: ان حب البسطاء من الشعب والاختلاط بهم من دون حاجز من التعالي المزيف، والكبرياء الفارغ، هو ما سأبقى أؤمن به، دفاعا عن ذلك البريء في سجنه.
كلمني الراحل من وراء القضبان قائلاً: ان ما تعرضت اليه لعداوة الأشرار، وعباد السلطة، وأسرى الانانية، سينجلي ليله وأنك ستبقى رجل من شرق المتوسط كما تناولتك رواية الكاتب عبد الرحمن منيف، ومنذ يوم سجنت في قصر النهاية على ايدي جلاديك في العام 1971.فلاتبتأس، لقد ابتليت بالجحود وانت من الرجال الذين أنكروا ذاتهم من اجل الوطن. ولكن ابشر فالنصر للعراق دوما.
وها قد غادرنا الاخ والصديق والمفكر مهدي الحافظ، ولكن الامل الذي تركه في بناء عراق مزدهر لم ينته.
ختاماً انعيك ابا خيام بدموعي ايها الشامخ، وان رسالتك في العقل والضمير والحرية هي بيد امينة …فهم جيل من العراقيين يستمدون قوتهم وقدرتهم في بناء ميزان الانسانية بالشعب وارادته في الحياة، من عقلك وضميرك والموثقة بكتاباتك وانت في العلى في رحمة الله بارئك.