النثر.. القصيدة الأصعب

يلجأ الكثير من شعرائنا إلى انتهاج كتابة قصيدة النثر، ظناً منهم أن هذه القصيدة هي الأقرب والاسهل في الصناعة الشعرية،لكونها تفتقر إلى عروض الشعر المعروفة في الوزن والموسيقى، بيد أن هذا الاحتكام إلى هذه السهولة هو مقتل قصيدة النثر،فالصعوبة في كتابتها قائمة على بعض المعارف، والتقنيات التي يجهلها الكثيرون.
لقد بينت الكثير من التجارب الناضجة في هذا الاتجاه أن قصيدة النثر هي الفن الأصعب في ممارسة الكتابة، فهناك العديد من شعراء العمود يستطيعون أن يدبجوا في يوم واحد أكثر من تسعين بيتاً في قصيدة واحدة، ذلك أن مثل هذه الصناعة مرهونة بالدربة والانقطاع إلى محفزات التراث، والاستسلام إلى سطوة الماضي في نحت النص الشعري الجاهز ،إذ تتاسس مثل هذه التجارب على فضاءات ونماذج الشعر الأخرى .،غير أننا نلمس صعوبات كثيرة وهواجس مقلقة لها بداية ،وليس لها نهاية ونحن نحاول كتابة قصيدة النثر ،فالنثر في الحقيقة فن صعب ويحتاج إلى تجربة حياتية فاعلة، ولغة مكثفة ورؤى جديدة تستنفر وعي الشاعر، وثقافته وامكاناته الذاتية في كتابة النص الشعري .
ويلاحظ أن بعض تجارب هذه الأيام هي تجارب عرجاء لا تقوى على مقاومة رياح الحداثة، وتجلياتها في الحقيقة الشعرية والتي تعتمد على أدوات الشاعر، وقدرته على الاستجابة التلقائية لفن قصيدة النثر ،إذ نرى شعراءنا يعولون على التقاط المرئي والمألوف ،في حين نجد القصيدة المؤثرة قائمة على المغايرة والاختلاف، فالشاعر الجديد يفتقر إلى مقومات الشاعرية المثالية، فهو يختصر الطريق من دون المرور بتراثنا الشعري القديم، ذلك التراث الذي يصنع قاموس الشاعر، وأدواته، ويمكنه على استنفار خياله، إضافة إلى تقويم لغته، وتيسير المفردات اليومية في معجمه الشعري، وكأنه في قطيعة منهجية مع هذا التراث.
إن التجارب الشعرية الجديدة هي تجارب نمطية تنفر من اشتراطات قصيدة النثر، وقوانينها، حيث نرى المعروض منها لا يمتلك توهجات الشعر الحقيقي، كاللغة والخيال والهم الإنساني، وان بعض منتجيها لا يميزون بين الفاعل والمفعول. .. ناهيك عن الركاكة الواضحة، وشيوع الأخطاء الفاضحة.
والواضح أن أغلب هذه التجارب تراهن على الحرية، وفضاءات الاتصال المتعددة في نشر كتاباتهم، وهي كتابة لا ترقى إلى القبول بنماذجها المرتبكة في وسائل الإعلام المختلفة، والمفارقة أن متطلبيها يجاهرون دون أدنى شك بالتميز، والافتتان بعندياتهم التي تهيمن عليها الرتابة والابتذال والتكرار.
ومن هنا، فنحن نحتاج اليوم إلى شاعر حالم يبحث عن كونية التجربة ،وارهاصاتها النافذة إلى الأعماق، وشمولية الهم الإنساني، فالشاعر الحقيقي هو شاعر الرؤى المحتدمة، والصياغات الفنية العالية والتي تستغرق المعاناة اليومية، وتتهجى عتبات العبور إلى المستقبل.
عبد الأمير خليل مراد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة