صدر حديثاَ عن منشورات المتوسط ـ إيطاليا، وحيدة ورائعة صاحب نوبل للآداب، الإيطالي “لويجي بيراندِلُّو” “واحدٌ، ولا أحد، ومِائة ألف”. والتي ترجمها عن الإيطالية المترجم البارع “أمارجي”.
هذه الرواية التي يصفها بيراندِلُّلو نفسه، في رسالةٍ من رسائل سيرته الذَّاتيَّة، فيقول: «النَّصُّ الأكثر مرارةً من أيِّ نصٍّ آخر، السَّاخرُ أعمقَ ما تكون السُّخرية من تحلُّلِ الحياةِ نفسِها» هو عملَه الرِّوائيَّ الوحيد والأخير. وهو الذي سينظر إليه كثيرٌ من الدَّارسين والمفكِّرين لاحقاً على أنَّه تكثيفٌ لكلِّ الأفكار واختصارٌ لكلِّ العوالم التي أراد بيراندِلُّلو التَّعبيرَ عنها في الرِّوايةِ والقصَّةِ والمسرح.
ولا غروَ في ذلك إذا ما علمنا أنَّ بيراندِلُّلو عملَ خمسة عشر عاماً على إنجاز هذه الرِّواية، وقد قال هو نفسُه إنَّه أبداً لم يضعها جانباً بين عملٍ وآخر، بل واصل العملَ عليها والتَّعديلَ فيها، عاداً إيَّاها بعد كلِّ شيءٍ أشبهَ بوصيَّته الفكريَّة والأدبيَّة. ومع ذلك، ليس من الإنصاف القولُ إنَّ هذه الرِّواية روايةٌ فكريَّةٌ فحسب، فهي وإن كانت تنطلق من فكرةٍ فلسفيَّةٍ ووجوديَّة إلَّا أنَّها لا تُغفِلُ الحدثَ الرِّوائيَّ وبناءَ الشَّخصيَّةِ الرِّوائيَّة، وهذا ما يجعلها في رأي كثيرين من طينةِ «المسخ» لكافكا، أو «يوليسيس» لجيمس جويس، أو حتَّى «البحث عن الزَّمن الضَّائع» لبروست.
نقرأ ضمن الكتاب: “المدينةُ بعيدة. يبلغُني منها، أحياناً، في هدأةِ الغروب، صوتُ الأجراس. ولكنَّني لم أعد أسمعُ تلك الأجراس في داخلي الآن، وإنَّما من خارجٍ فحسب،- أسمعها ترنُّ حُبَّاً بذاتها، وربَّما كانت ترتعشُ محبورةً داخلَ تجاويفها المُرِنَّة، في سماءٍ زرقاءَ آسِرَةٍ ملأى بشمسٍ ساخنة وسطَ الصَّيحاتِ الحادَّةِ للسُّنونوات أو في قلب الرِّيح الغماميَّة، ثقيلةً جدَّاً، عاليةً جدَّاً، في أبراجها الأثيريَّة. أحدٌ ما يفكِّرُ في الموتِ؟ أحدٌ ما يصلِّي؟ لعلَّ هنالك مَنْ ما يزال في حاجةٍ إلى هذا، ولعلَّها تصنعُ لأجل ذلك إرناناتِها. أنا لم أعد بي حاجةٍ إلى هذا، لأنَّني في كلِّ هُنيهةٍ أموت، وأولَدُ من جديدٍ ومن دون ذكريات: حيَّاً ومكتملاً، لا داخلَ كينونتي بعد الآن، ولكنْ، في كلِّ شيءٍ خارجَها.”
ولويجي بيراندِلُّلو (1867-1936) شاعرٌ وروائيٌّ وكاتبُ قصَّةٍ قصيرةٍ ومؤلِّفٌ مسرحيٌّ إيطالي حاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1934. نال بيراندِلُّلو درجة الإجازة في الأدب من جامعة بون بألمانيا عن رسالته التي كتبها حول اللهجة العامية في صقلية، ثم علَّم اللغة الإيطاليَّة مدَّة سنةٍ في الجامعة نفسها وترجم ديوان المراثي الروميَّة للشَّاعر الألماني غوته، ونشره في روما عام 1891 قبل عامٍ واحدٍ من عودته إليها حيث استقرَّ متفرِّغاً للكتابة. نشر أوَّل ديوانٍ له في أثناء دراسته في روما والثَّاني عام 1859. دخلَ عالم الكتابة من بوَّابة الشِّعر، غير أنَّ شهرته ذاعت، على نحوٍ واسعٍ، في مجال المسرح، إذ برزَ كواحدٍ من أهمِّ الكتَّاب المسرحيِّين، وكان لأسلوبه تأثيرٌ على كتَّاب المسرح في العالَم، وخصوصاً على زملائه في القارَّة الأوروبِّيَّة، كالإيرلندي صموئيل بيكيت، والفرنسي جان بول سارتر، والسُّويسري فردريك دورينمات.
حادثتان في حياته حفَّزتاه على التَّجريب ضمن عدَّة أشكالٍ أدبيَّة وعلى التَّعبير بأكثر من طريقةٍ وأسلوب؛ الأولى: ولادته في صقلية البائسة في الجنوب الإيطاليِّ، حيث آلمه التَّباين الشَّاسع بين ثراء الشَّمال وفقر الجنوب، والثَّانية: صحوة فلَّاحي صقلية في نهاية القرن التَّاسع عشر، والتي دفعته إلى أن يكون صوت من لا صوت لهم، صوت البسطاء والحالمين.
«واحدٌ، ولا أحد، ومِائة ألف» تصدر بترجمة جديدة لأمارجي
التعليقات مغلقة