تململ من مكانه ورمى ما في يده من قلم وأوراق وكتب رسمية .. تركها على مكتبه الذي كان يزدحم بالأوراق والصحف والمجلات والنشريات المتناثرة.. التي تعوّد أن يغوص فيها يومياً منذ الصباح حتى ساعة متأخرة من الليل، نهض من مكانه نحو نافذة غرفته المطلة على جزء من مدينة بغداد، تناول قدح الشاي وأخذ يرتشف ما تبقى فيه.. أطلق زفيره.. وهو يحاول جاهداً أن يخترق ببصره أفق مستقبله ومستقبل مدينته، أن يتأمل ما تبقى من وجهها الجميل الذي لم تحجبه انبعاثات النفوس المريضة بعد.. ولا التلوث البيئي لمداخن ونفايات العقول “الفارغة” والغبار الذي يحيط بها ويمتزج بأجوائها كما هي نفوس الكثير من المحسوبين على أبنائها.. يبدو أن صوت الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب الذي كان ينساب بهدوء من جهاز التلفاز… أيقظ عنده المواجع والأحزان.. وتنبه جيداً الى الجملة التي كان يرددها عبد الوهاب “أنا من ضيَّع في الأوهام عمره !”
توقف عندها.. يبدو أنها الجملة التي قصمت “صمت الحملان” .. استفزته وفجَّرت عنده الكثير من الآلام التي كان يحاول أن يكبتها طيلة السنوات الماضية إكراماً للمبادئ التى تربى عليها وخدمة للصالح العام.. شعور غريب بدأ يتسلل إليه كأنه يحمل جبلاً من الهموم، وإحساس جعله شارداً لأول مرة وينطق بحسرة : “أيباه” ..هل صحيح أنا من ضيع عمره في الأوهام” .. الى أين أمضي .. ها أنا قابع هنا في هذا المكان منذ سنوات طويلة… لا أعرف الليل من النهار لم أعرف الكلل والملل والتعب، في صراع طويل.. أتسابق مع الوقت حتى أنجز عملى… لكن لمن كل هذه التضحيات وهل هناك من يستحق ذلك، هل كنت مخطئاً عندما خسرت صحتي وأهملت عائلتي وضيعت فرصاً كثيرة كان يمكن أن تنقلي الى حياة أفضل… دخلتها قوياً أتمتع بصحة جيدة.. وها هي الأدوية هي من تعينني على المقاومة… أعطيتها عمري وشبابي… ولم أحصد منها غير المكائد والمصائب و” شر الأشرار” وظلم وجفاء من “أحسنت إليهم” .. ولم تعد نظرية القناعة كنز لا يفنى مجدية… فهم يسرقون جهدك في وضح النهار “عينك عينك” ، وما عاد الشرف الوظيفي الرفيع في الكثير من المؤسسات الحكومية هو المقياس والتقيم الحقيقي، وإنما القاعدة اليوم هي أن من يمارس “العهر الوظيفي” يفوز بالملذات والإيفادات والامتيازات والوجه الحسن !!
لماذا أصبحت مصائرنا بيد من يسوّق “عقده” وأمراضه بدلاً من ترسيخه التقاليد الوظيفية الرصينة التي تربت عليها الأجيال السابقة وتعلمت منها الشيء الكثير… هل تغيرت أخلاقيات المجتمع.. أم أننا لا نجيد العمل وفق “النظرية” التجارية الشهيرة التي يرددها الأشقاء في مصر وهي أن “الرزق يحب الخفيّة” !!
طرقات على باب مكتبه قطعت تساؤلاته وإذا بزميله “أبو عادل” الذي بادره : ها اليوم يمكن مزاجك برتقالي.. أشوفك صافن وإيدك على الخد.. وحسبة تجيبك وحسبة توديك!
أجابه : اليوم تأكدت بأن حالتي تشبه حالة الرجل اللي طاكَيته منكَوبة “مثقوبة “!!
رد عليه أبو عادل: ومنو هذا أبو الطاكَية..؟ مسؤول بالدولة لو نائب بالبرلمان..؟ أجابه: لا هذا ولا ذاك.. أكو مثل يكَول :” اليحجي الصدك طاكَيته منكَوبة”.. ويُضرب هذا المثل للرجل الصادق الأمين.. الذي يخشاه الناس لصدقه وأمانته و”الطاكَية” غطاء للرأس يشبه “العرقجين ” لكنه أخف وزناً.. ويحكى أن رجلاً كان قد قطع عهداً على نفسه أن لا يكذب أبداً وأن يقول كلام الحق.. لكن قوله الصدق كان يوقعه في مشاكل مع الناس، تصل في أحيان كثيرة حد الاعتداء والضرب على رأسه ما يؤدي الى ثقب الطاكَية !
رد عليه أبو عادل: ولا يهمك إن شاء الله يجي الوكت اللي ينصفوك بيه أولاد الحلال.. وعمر الحق ميضيع .. ومثل ميكَول المثل اللي ياكله العنز.. يطلعه الدباغ .. وهذا المثل يُضرب للإنسان الذي يظلم غيره أو يسبب له الأذى، أو يسعى في الكيد له، أو زوال نعمته، لكنه وإن تمكن من النيل منه فلا بد أن يأتي يوم ينال فيه هذا الظالم جزاءه بما اقترفت يداه، عاجلاً في الدنيا، أو آجلاً في الآخرة !
• ضوء
ما يدور من حولنا وما نواجهه في الحياة من ظروف وأحداث، يجعلنا نعتقد جازمين بأننا نعيش في مصح كبير للأمراض النفسية والعقلية
عاصم جهاد