علوان السلمان
النص السردي..التصور الذهني والمعطى الجمالي المتشكل عبر نسيج تركيبي لغوي يحتضن ما تدخره الذاكرة..المنجم المعرفي الصانع للحكايا.. والذي يحتل مركزاً بؤرياً في مكانزمات الوعي المختمر في ذهنية المنتج الذي يخادع الزمن فيسرق ماضيه ليعيد صياغته حاضراً ومستقبلاً فنياً وجمالياً..فضلا عن تحطيم القوالب المألوفة بتجاوز النمطية وتأصيل النص وانفتاحه مما يجعله قابلا للتأويل والتأطير المتحول.. الكاشف عن لا محدودية المعنى..كونه بنية ثقافية متعددة المشارب وبانوراما تمد متلقيها بحقول ابستمولوجية..معرفية(اجتماعية/نفسية/ثقافية/سياسية/اقتصادية..)..اضافة الى صناعة الدهشة والتساؤل من اجل تحقيق المنفعة الفكرية والمتعة النفسية
وباستحضار وتفكيك النص السردي(في اللاأين) الذي نسجت امتداداته التي تجاوزت المقطعية الفصلية او الرقمية في بنائها فكانت نصاً متدفقاً يلامس الهم الوجودي الانساني باعتماد الشخصية ذات الطبيعة الشائكة في عمقها النفسي..المليئة بطموحات الذات الحالمة التي يكتشفها المستهلك(القاريء) من خلال الحوار الذاتي الذي يتم الانتقال اليه بتلقائية ممزوجة بالسرد.. ومختصرة للمسافات الفاصلة بين الازمان..كون الشخصية تروي الحدث لحظة حدوثه.. واسهمت دار سطور في نشره وانتشاره/2017..كونه يتجاوز المألوف ويتوغل في المعنى بتركيزه على الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر في الواقع الاجتماعي داخل بنية النص الذي تفرد بتجريبيته وتركيزه على ايهام المستهلك والاهتمام بالصورة الصوتية والسايكولوجية للبطل….فضلا عن خلق جمالية تشويقية عبر التنوع في الصور والايحاءات والحركة والتساؤل..ابتداء من العنوان بابعاده الدلالية والنفسية التي طالما ارتبطت بالوعي الجمعي..والتي منحت النص هويته التي تسهم في استقراء بنياته وتحديد مقاصده والكشف عن مضمونه من خلال اسهامه في فك مغاليق النص بصفته دلالة منتزعة من مكنوناته لتحقيق البعد الفكري..
(اسمه امجد..اعني:كان اسمه امجد لحد تلك اللحظات التي طوّح فيها بساعة معصمه وهاتفه النقال وكتبه الثلاثة..وهو الاسم ذاته الذي صعد به معنا الى القارب..لم يتسن لي حينها ان التقط اسم ابيه وجده من فم سائق القارب..وهو ينادي علينا بأسمائنا قبل دقائق من بدء الرحلة..الرجل يريد ان يؤمّن على وجودنا بكامل عددنا معه في قاربه..أربعة وخمسون رجلا وامراة وطفلا..فكان يقرأ في قصاصة ورق ترتجف بها يده وينادي بالاسماء..ومع انه فرغ من مهمته تلك وأمّن على عددنا كاملا معه..الا انه لم يأذن لقاربه بالانطلاق..انتظر حتى يدمس الظلام..ثم أدار محرك القارب وانطلقنا..)ص5ـ ص6..
فالنص ينصب في خانة الواقعية التي يتلمسها المتلقي في بعض مفاصلها والتي تشكل نوعاً من الايهام لكسر رتابة التوقع باعتماد مقاربات اجتماعية مع توظيف امكانات التشكيل الذي يمتلكها السارد من تفاصيل الحياة( ومع انغمار طريق القارب اطلق الجميع صوتاً واحداً موحدا وكان عبارة عن صيحة متطاولة:هي يـ يـ يه ثم ارتفع صوت من مؤخرة القارب:اللهم صل على محمد وآل محمد وعلا صوت في الآن ذاته من وسط القارب ينشد: هذا سايقنا الورد هسه يوصلنا ويرد..فاذا بالركاب كلهم من دون استثناء بمن فيهم امجد وانا ننضم الى الصوت الثاني ونطفق نردد معه تلك الاهزوجة بحبور منقطع النظير..)ص10..مستعملا له من التقنيات الفنية(لغة دالة ومدلول رامز وقراءة تنطلق من واقع اجتماعي)..كي يحقق الانتقال من التسجيلية الى الرؤية الفنية بلغة تصنع الغرائبي من المألوف وتجمعه في بؤرة عالمها السردي المليء بالحركة والحيوية المتدفقة..
فالنص يكرس دلالات انسانية عميقة في حالة صيرورة دائمة ونمو من الداخل يكشف عن حركة زمنية ومتغيرات شيئية من خلال التحكم بجزئيات المحكي ووضعه تحت سلطة المتخيل الذي يبني تصوراته على النسق القيمي..فضلا عن انفتاحه على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان..الوعاء الفكري للذاكرة والحاضنة للفعل وانفعال وتفاعل المنتج للسرد بمشاهده المتوالدة من بعضها البعض بمخيلة مكتظة بالمعطيات الحسية التي يتفاعل معها بوعي كلي ولغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها بايجاز وتكثيف جملي..
(فحاولت ان ارمم موقفي: عزالدين كنت اقصد انت فكرت بالظروف الصعبة اللي راح نواجهها هنا بالمنطقة؟..
.. طبعا دانيال فكرت..أقول لك قضيت الليل كله أفكر واتقلب..دانيال عزيزي كرهت حياتي..هذي الحياة اللي عايشيها كرهتها..اذا ابقى ببلدي فآني متبهذل واذا أهاجر ما ادري وين فراح اتبهذل..اذن ما كو فرق..كلها بهذلة ببهذلة..فأي حياة هذي اللي ممكن احبها؟..فقلت لنفسي ليش ما اجرب ابدأ من الصفر بمكان آخر مثل ما يقول سليمان..؟..في الاقل هذي الحياة الجديدة راح اكون اني مسؤول عنها..قصدي آني وانتم راح نكون مسؤولين عنها..يعني حياتنا احنه نخطط لها واحنه نسيرها مو غيرنا يفرض علينه شلون نعيشها..اي دانيال راح ابقى وياكم بهذي المنطقة..
هنا تنبهت الى اني لا اعرف أي شيء عن عزالدين..ماذا يعمل؟ماهو تحصيله الدراسي؟متزوج ام لا؟اين عائلته؟ما الذي دفعه الى الهجرة عن طريق التهريب؟ وغيرها من الاسئلة التي لا املك جواباً لاي منها..مثلما هو ايضا لا يعرف عني اي شيء..عزالدين وعائلتك..ما فكرت بها؟
..أي عائلة؟
..عائلتك..أقصد زوجنك وابناءك وغيرهم..
..وانت شلون عرفت عندي عائلة؟
..لازم تكون عندك عائلة..ماكو واحد ما عنده عائلة..)ص203ـ ص204
فالخطاب السردي يكشف عن تجليات الذات وصيرورتها من خلال افراز الوعي الجدلي القائم على قطبي التقنية الفنية والجمالية بلغة ايحائية اللفظ..متفجرة الدلالة المرتكزة على خصوبة المعنى..الذي يتجلى عبر مستويين:اولهما طغيان التعبيرات والمفردات العامية وثانيهما مجاورة العامية للفصحى مما خلق تنوعاً لغوياً..المتجسدين من خلال الحوار بشقيه الذاتي(المونولوجي) والموضوعي(الديالوجي)..الذي فيه يغيب صوت الراوي العليم.. ويبقى صوت الشخوص الذي يكشف عما في داخلها وهي تتحدث من عمق وضعها الانساني المازوم.. وهي تتحرك في امكنة مفترضة.. مجردة..وبيئة لها دلالاتها بتنفس صراعاتها عبر ثنائيات متناقضة تعبر عن نسق العلاقات الاجتماعية والوجود الاجتماعي والافكار..لذا فهي تفعل فعلها في الشخصية بكل امتداداتها الزمنية ومكوناتها الدينية والفكرية(التوراتية والانجيلية والقرآنية) (عند حافة الجرف توقف وطوح بساعة معصمه بعيدا بعيداً نحو موجة مقبلة..وتبعها بهاتفه النقال..ثم راح يخرج من كيس اسود معلق بذراعه كتبه الثلاثة فيطوح بها الكتاب تلو الاخر نحو الموجة ذاتها..)/ص5.. التي ما تفتأ تحتدم بالتمرد والهرب الى اماكن تحصل فيها على بعض حريتها.. هذا يعني ان النص يعتمد منابع فكرية وفلسفية واجتماعية وسياسية منفتحة زمانياً ومكانياً بتقنية النص المركب والتعددية الدلالية..مع اعتماد النسق اللغوي المحتفي بتعالقاته الممنهجة..الكاشفة عن وعي الذات المنتجة وما يختمر في ذهنها..مما يمنح النص حيوية ودينامية لا تعرف السكون..بمحاولة المنتج اخضاع مكانزمات الوعي الباطني لارادته للتعبير عن شخوصه وواقعه..
(الخبز وحده مقترن بالانسان وليس بأي كائن حي آخر..حتى الكائن البشري لن يقترن به الخبز قبل ان يرتقي بكينونته الى مصاف الانسان..ذلك الكائن النوري الذي يخلق الزمن فيصنع التاريخ..اذن فحياتنا التاريخية في هذا اللا اين ستبدأ فعليا يوم غد..على هذا فقد كنت متحسباً من وقت مبكر..فاعددت خميرة لعجين(ام بكر) قبل بضعة ايام..انقعت قبضة زبيب بماء قليل في اناء فخاري صغير واحكمت غلق فوهته..وغدا سيحين أوان فتحه بالخميرة الموعودة..ولكن من ذا الذي له طاقة منا على انتظار الغد؟..فقررنا جميعا في لحظة قرار واحدة ان نستقدم فجر الغد فنمنا مبكراً هذه الليلة..هذه الكلمات هي آخر كلمات كتبها استاذ(محب) الذي اسمه الاصلي دانيال متي بولص او داني كما كان يناديه استاذ(وطن) في بعض الاحيان..)ص366..
فالروائي يوظف الصوت كدال رمزي معادل لنفسية البطل (دانيال) الذي يحاول كبت الصراعات الذاتية حتى انه لايكتفي بعرض ما يجري في اعماقه.. بل يجعل من متلقيه يسمعون صدى ما يجري هناك..لتحقيق الدهشة التي تدعو المخيلة وتحفزها لاستنطاق النص والوقوف على خصائصه الجمالية المتمثلة في الصورة الصوتية(النداء الخفي) او(الظل كما يطلق عليها علماء النفس) والتي تنسج شبكة من المحمولات الدلالية في السرد..مع تركيز النص على الخيال في تحقيق الاتصال بالاشياء لاختلاق بنية اجتماعية مغايرة في علاقاتها مع الواقع.. اضافة الى اختراق ضوء الشعر للبنية السردية لكسر رتابتها وابطاء ديناميتها لتحقيق النقلة السردية من مستوى الحركية الحدثية الى الحركة الوجدانية فتنزع عن الحدث بعده الخبري لتزوده ببعد ايحائي متعدد الدلالة..
وبذلك قدم الروائي الشبيب نصا يتأسس على مقولات مركزية تنحصر في البعد السوسيوثقافي الذي رسخه رايموند وليمز وعنف السياسة وحفريات المعرفة الذي رسخه ميشيل فوكو واخيراً الوجع الاجتماعي القلق المفترض الذي رسخه ليونار وبودريار..وكل هذه الابعاد اثرت في تشكيل النص الذي يبحث عن مكان آمن باشتغاله على ثنائية التحول الزمكانية ابتداء من التساؤل العنواني الذي يعني مسيرة وطن وافراد يؤطرهم القلق والازمة والمجهول مما يضطرهم الى الهجرة التي هي(عملية لا واعية تنشأ من اوضاع سايكولوجية ضاغطة من اجل تحقيق الاستقرار النفسي والتوتر الاجتماعي والتخفيف من مخاوف الذات لتستعيد توازنها بعد معاناة وقلق..).. كما يرى علماء النفس.. وهي تعتمد هدم الحكاية بتقطيع الاحداث والانتقال من مشهد واقعي الى مشهد متخيل مع اعتماد تقانتي الاستباق والاسترجاع عبر خطية تنامي الحدث..هذا يعني انه يحمل نمطاً مغايراً للتعبير عن حالة الوطن وسؤال الهوية.. بلغة ورؤية تعبر عن ضياع الانتماء من خلال مبنيين:اولهما مبنى الهجرة والبحث عن ملاذ آمن..وثانيهما مبنى يجر المتلقي الى المراحل الاولى للتشكيل البشري والزراعة وجني الثمار وتأسيس وطن دلالته الخبز.. من خلال قراءة الواقع بكل تشظيه وتناقضاته وصراعات شخوصه الفكرية والنفسية بتوظيف لغة تعتمد التصويرالموضوعي للمشهد البصري والتركيز على حركة الشخوص والمكان…