جرجيس كوليزادة
حرب الشركات الأمنية الخاصة، وسيلة جديدة لادارة الحروب الصغيرة في مناطق الصراعات الاقليمية والدولية، بدأت بابتكارها واستخدامها الدوائر الاستخبارية والمخابراتية والأمنية في الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وأول ظهور لهذا النوع من الحروب حسب ما يعقتد جرى بصورة علنية على الساحة العراقية بعد سقوط النظام البائد سنة الفين وثلاثة، وحسب منظور العسكريين هي بديل عن استعمال الجيش النظامي في المواجهات العسكرية الساخنة مع الميليشات والعصابات والحركات والمجموعات المسلحة التي تسود بعض الدول والمناطق المضطربة في العالم وخاصة منها الشرق الأوسط.
وبالرغم من قلة المعلومات عن الشركات الأمنية، الا ان الشركة الأبرز التي ورد اسمها في الوسائل الاعلامية العالمية هي «بلاكووتر» الاميركية التي كلفت بمحاربة القاعدة والمجموعات المسلحة في العراق، وفي عين الوقت كلفت بتوفير الحماية الأمنية للمسؤولين الاميركيين والعراقيين والأجانب، ولهذا الغرض كان مسموحا لافراد الشركة جميع اوامر قواعد الاشتباكات القتالية بدون أي تعرض الى المساءلة القانونية من قبل السلطات العراقية.
واضافة الى هذه الشركة الاميركية عملت شركات أمنية اخرى على أرض العراق، ومنها شركات عراقية وكردية، وكانت ملكية أغلبها تعود الى مسؤولين بارزين في الاحزاب والحكومة، وخاصة المسؤولين من القيادات الكردية في الحزبين الحاكمين للبرزاني والطالباني بالاقليم، حيث استغلوا افراد البيشمركة باجور شهرية قليلة على شكل تعاقدات مع الاميركيين والحكومة بأموال طائلة كانت تدار عليهم مثل سيول الامطار، وقد أستغل المقاتلين الكرد القائمين بالمهمات القتالية والامنية لنوايا ومقاصد جشعية، حيث كانت تقدم لهم مبالغ زهيدة بالرغم من تعرض حياة الكثير منهم الى الخطر والموت، وحالة الاستغلال والجشع كانت شبيهة بحالة الافواج الكردية الخفيفة (الجحوش) في ايام نظام صدام حيث الافراد كانوا يستلمون نسب قليلة من الرواتب وبقية الرواتب كانت تسرق في وضح النهار وأمام اعين الجميع وتذهب الى جيوب رؤساء الافواج، ومثلما هو حاصل منذ سنوات في رواتب موظفي الاقليم بحجة»الادخار» القمعي الاجباري حيث تدقع الحكومة ربع الراتب وتسرق النسبة الباقية وتذهب الى جيوب الرؤساء والمسؤولين الكبار من الحزبين الحاكمين، وهي حالة السرقة نفسها التي كانت تجري لرواتب (الجحوش) من قبل رؤساء الافواج في ايام المعدوم علي الكيمياوي.
والمعروف ان أجواء عمل الشركات الامنية الاجنبية التي تعمل على نطاق دولي تتمتع بحرية كاملة في المجابهات القتالية، ولا تراعي حالات حقوق الانسان والكل يحسب عدو امام العناصر الامنية لهذه المكونات التي تتعامل بحرفية وعذائية مع الاخرين حتى وان كانوا مدنيين، والساحة العراقية شهدت حوادث اعتداءات كثيرة من قبل عناصر ومرتزقة الشركات الأمنية على المدنيين وراحت ضحيتها ارواح كثيرة من الابرياء، ومن دون اي محاسبة من قبل الحكومات العراقيةالمأجورين لتلك الشركات الامنية الخاصة. والطابع الذي يسيطر على هذه الشركات ان عناصرها المسلحة هم افراد مقاتلين مأجورين ومن دول عديدة، ولكن بخبرة قتالية متراكمة من خدماتهم السابقة في الجيوش النظامية والقوات الأمنية والجهات المخابراتية او اجهزة الحمايات الخاصة، وتجري الادارة والقيادة تحت اشراف ضباط وجنرالات متقاعددين، وفي مهامهم القتالية يلجؤون الى استخدام جميع الوسائل المتاحة في الاشتباكات القتالية وخاصة مع المليشيات والعصابات والمجموعات المسلحة، ومنها شراء الذمم باغراءات مالية ووسائل متنوعة مثلما حصل في العراق.
والصفة التي تتسم بها هذه الشركات انها قادرة على الوصول الى اوكار وبؤر صعبة ومجهولة لا تستطيع القوات العسكرية النظامية الوصول اليها بسبب قيود مهنية وقانونية، وهي تستعين لهذا الغرض بعناصر محلية وتستغلها في مهامها القتالية والأمنية، والغريب في العراق ان مرتزقة هذه الشركات في بعض المناطق كانت تقوم بايجار عناصر عراقية وكردية لحمايتهم مقابل اجورا قليلةجدا في حين كانت تدفع لهم اجورا عالية جدا للاجانب، حيث كانت مهمة هذه العناصر الامنية حماية المسؤولين والأماكن الحساسة وفي عين الوقت كانوا يلجأون الى تأجير مسلحين محليين وباجور زهيدة لضمان الأمن في الحمايات الخاصة للمسؤولين، والحكومة العراقية كانت تدفع بأموالا طائلة على تلك الشركات الأمنية وخاصة الاميركية منها، وقد اشارت تقارير الى تسرب أموال هائلة بعشرات ومئات المليارات بالدولار من الخزينة العراقية الى الخارج تحت عنوان توفير الأمن والحماية الشخصية للحكام والمسؤولين والدبلوماسيين الاميركيين والاجانب، ومازال موضوع الحماية الشخصية للمسؤولين العراقيين تخصص لها مبالغ طائلة في الميزانية السنوية العامة.
والدعوة التي اطلقتها شركة بلاك ووتر لخصخصة الحرب في أفغانستان تحمل بوادر رؤية استراتيجية عسكرية جديدة في الولايات المتحدة، خاصة وان كل شي فيها مرهون بالنظام الرأسمالي الحر وبقطاع الشركات غير الحكومية ومنها كارتيلات عملاقة عابرة للقارات، والكثير منها متخصصة في مجال الاسلحة والاجهزة والمعدات العسكرية والأمنية، ودعوة خصخصة الحروب تدغدغ تلك الشركات والكارتيلات لانها تسمح لها بتوفير حرية كاملة من دون قيود الحكومة الاميركية لامرار صفقاتها العسكرية والامنية والتجارية على حساب مصالح الشعوب المضطربة والمتقاتلة مع بعضها في مناطق الصراعاتالاقليمية والدولية.
ودعوة مؤسس شركة بلاك ووتر لا تاتي من فراغ لخصخصة الحرب في افغانستان، خاصة وانها مبنية على حساب تقلبل الكلفة والخسارة، وهذا مبدأ هام ورئيسي في المنظور الاقتصادي والعسكري والمالي للنظام الرأسمالي الاميركي، والفكرة مطعمة بالاعتماد على عناصر مرتزقة أجنبية من مختلف دول العالم، وهذا اغراء مهم لتقليل الخسائر في الارواح البشرية العسكرية الاميركية، وهذا الامر يحسب له الف حساب على النطاق الرسمي والشعبي وعلى صعيد الانتخابات في الولايات المتحدة، لهذا ولكون الفكرة جديدة على النطاق العسكري والأمني من المحتمل انها ستثمر عن نتيجة ايجابية بالقبول والتنفيذ من قبل المؤسسات العسكرية والمخابراتية في واشنطن في االسنوات والعقود اللاحقة.
ولكن المخاطر والخروقات الانسانية الناتجة عن تطبيق هذه الفكرة سوف تزداد وستبقى قائمة في ظل هذا النظام الارتزاقي العسكري الجديد، ولو طبق وفقا لعقود مبرمة او اتبع كمنهج عمل من قبل الحكومات على النطاق الدولي في مستقبل قريب او بعيد، فان العمل بهذا الاسلوب ستراقه خروقات فضيعة وشنيعة بحق حقوق الانسان وقيمها ومبادئها والتي تعمل الامم المتحدة بكل جدية على ارسائها في جيمع انحاء العالم منذ منتصف القرن الماضي على وفق الاعلانات واللوائح العالمية التي اصدرتها الجمعية الأممية العامة.
ولكن المعلوم ان هذه الشركات لا تراعي أي اعتبار انساني او اخلاقي في مجابهاتها القتالية وفي اساليب عملها، ومثلما حصل من حالات ايذاء والحاق اضرار وقتل لمواطنين عراقيين وماتزال المحاكم الاميركية تنظر في بعض ملفاتها بحق المرتكبين من العناصر المرتزقة لبلاك ووتر، فان المنظمات الدولية وجمعيات حقوق الانسان وحتى احزاب واطراف سياسية ديمقراطية سوف تقف بوجه هذه الفكرة وستحارب دعوة خصخصة الحروب بشدة، وستعمل على منع تسويقها وتطويقها بأي حال من الأحوال وخاصة في مراكز القرار الاميركي، ولكن بالرغم من هذا التفاؤول يبقى العامل الرئيسي المتحكم بتبني الفكرة العسكرية الجديدة هو اللاعب الأساس في تطبيق هذا الاسلوب، واللاعب هو شركات السلاح والتجهيزات والاليات العسكرية الاميركية والبنتاغون ووزارة الدفاع، وفي حال اتفاق هذه الاطراف الثلاث على تبني فكرة خصخصة الحروب فان الاطراف المعارضة في حينها ستكون غير قادرة على دحض الفكرة، وفي حال تطبيقها سوف تدفع الدول والشعوب والامم في العالم الثالث ثمنا باهضا في مثل هذه الحروب التي سترتكب فيها المرتزقة اعمالا وحشية ضد الانسانية.
وفي كل الاحوال مازالت الفكرة مجرد اقتراح مطروح على المؤسسات العسكرية والامنية والمخابراتية الاميركية، ونأمل من باب المنظور الانساني ان ترفض كليا وان لا تنساق لها الحكومة، وبالرغم من آمال التمني فان واقع الحال يختلف وبعيد في كثير من مجالاته عن المثل والقيم الانسانية، ولكن مع هذا يبقى الأمل ملاصقا للعقل البشري الذي انقذ المجتمع الانساني عبر الازمان من الكثير من الويلات والمآسي التي تعرض لها الانسان على هذه الارض المعمورة.