عامر الدوي
في مجتمعاتنا الشرقية والعربية تكاد مسألة دور رعاية المسنين أن تكون حديثة الورود نسبيا ً وذلك بحكم العلاقات الإنسانية السائدة وبحكم التربية الدينية التي حتمت على الأبناء رعاية والديهم و البر بهما و أوحت لهم بأنه يكاد يكون الطريق إلى الجنة في نهاية الأمر.
لكن مراحل التطور التي مرت بها هذه المجتمعات سواء ً تكنولوجيا ً أو إقتصاديا ً أو سكانيا ً فرضت أنماطاً جديدة من العلاقات الإنسانية يكاد التغيير أن يكون قد لامس معظمها بحيث أن الأبناء صاروا مسؤولين عن معيشتهم وأزواجهم و أبناءهم وصارت معظم العلاقات مع أصولهم (أبائهم و أمهاتهم ) روتينية بحتة , وقد ساعدت في ذلك ظروف الحروب التي دخلت فيها دولنا منذ العام 1948 و حتى ما بعد حرب الخليج الثالثة على هذا الإنحدار في العلاقات الإجتماعية .
هذه الأمور مجتمعة ( المتغيرات الإجتماعية و الحرب العالمية الثانية و ما تلاها ) اسهمت في نشوء الحاجة إلى مثل هذه المؤسسات في بلدنا و بالذات منذ أواسط القرن الماضي , وطبيعة عمل هذه المؤسسات هنا ما زالت حتى اللحظة مختلفة عن مثيلاتها في الدول المتقدمة , سواء في أسلوب إدخال المسنين لها أو في نوعية الخدمات المقدمة لهم .
في الغرب مثلا ً , يكون الإدخال أما عن طريق الأبناء أو المسن نفسه عندما يشعر بأنه أصبح يشكل ثقلا ً و عبئاً كبيراً على كاهل أبنائه , ويحظى خلال مكوثه فيها برعاية متميزة ويزوره أبناؤه بصورة تكاد تكون منتظمة . و هذه طبعا ً ليست خدمة مجانية و الرعاية المتميزة ليست قاعدة عامة إذ أن لكل قاعدة شواذ , فهناك أيضا ً بعض المنتسبين من سيء الخلق و الذين يسيئون معاملة المسنين أحيانا ً .
و تكون هذه الدور تحت إشراف حكومي و تسهم بعض منظمات المجتمع المدني و من مشاهداتي في ألمانيا وجدت حتى المؤسسات الخدمية كالفنادق تعمل بالتعاون مع الجامعات على توفير الخدمات لذوي الإحتياجات الخاصة من أساتذة الجامعات المتقاعدين مقابل نسبة صغيرة من رواتبهم التقاعدية بينما تتكفل الدولة الألمانية بدفع ما يتبقى من الإجور .
مما يؤسف له هنا أن الكثير من القصص وردت و ما تزال ترد حول سوء المعاملة و نوعية الخدمات السيئة المقدمة لهم و التي تسبب الكثير من حالات تركهم لهذه الدور , و لأن نمط الإدخال كما أوردت يختلف عما هو عليه في الغرب , فإن الصفة الغالبة لنزلاء هذه الدور لدينا هي كون معظمهم من الذين تشردوا عن أهلهم و أنقطعوا نهائيا ً عن الجذور و باتت الشوارع هي المأوى الوحيد لهم .
لذلك نراهم كلما أزدادت المعاملة لهم سوءا ً كلما زادت حالات فرارهم ثانية إلى الشوارع , وهذه الظاهرة من الأمور السائدة اليوم و بنحو مؤسف , و لعل بداياتها المؤلمة كانت مع الأيام الأولى لسقوط النظام السابق عندما تعرضت هذه الدور إلى سرقة محتوياتها بعد طردهم منها . ولم تسلم من هذه الحالات الدنيئة حتى مستشفى المجانين في الشماعية .
إن قانون الرعاية الإجتماعية و بما يقدمه لمحتاجيها من الفتات على شكل رواتب ضئيلة , إلتف عليها حتى السراق و من أسهم في تشريد النزلاء في تلك الأيام ليتقدموا بمعاملات على أساس أنهم مشمولين بها , لا يعد كافيا ً اليوم إذ يتطلب الأمر إعادة نظر بكل الملفات الموجودة في وزارة العمل و الشؤون الإجتماعية و حسم قضية الفساد الموجود فيها و تخصيص جزء كبير من هذه الأموال لبناء دور جديدة و بمواصفات جيدة و تحت إشراف خاص من وزارة الصحة عبر تخصيص ملاك طبي متجول للقيام بزيارة هذه الدور بنحو دوري وتقديم التقارير للوزارة و لمفوضية حقوق الإنسان المستقلة حول نتائج الزيارات و المشاهدات و نوعية الخدمات المقدمة فيها .
كما أرى أن تكون أجنحة المسنين المدخلين سواء بإرادتهم الشخصية أو بإرادة ذويهم معزولة بصفة مؤقتة عن أجنحة المسنين المشردين الذين يجب و بالضرورة جمعهم من الشوارع لتوفير فرصة حياة كريمة لهم أولا ً و لإزالة الصورة البشعة التي يعكسها وجودهم هناك عن وجه الحكومات المتعاقبة ثانيا ً . و دمجها بعد إعادة تأهيل هؤلاء من الناحية الجسمانية و الصحية .
كما أنها في الوقت نفسه تتطلب مجهودات كبيرة من منظمات المجتمع المدني و بالذات تلك التي تنشط في مجالات حقوق الإنسان لتلعبها في إنهاء هذه الصورة الكالحة عن مجتمعنا و قيمه العليا التي باتت في نزول مستمر و بالذات منذ العام 2003 , و إذا لم تتظافر كل الجهود فإننا سنبقى قابعين في ذيل قائمة الدول المتخلفة في هذا المجال على الرغم أن بلدنا كان من أوائل الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان .