آباء وأمهات على قارعة الطريق
بغداد ـ خاص:
بين ليلة وضحاها وجدوا انفسهم على قارعة الطريق بعد أن تخلى عنهم فلذات اكبادهم الذين قابلوا الاحسان بالنكران ، فلم يجدوا غير دور الدولة مأوى لهم بعد ان ضاقت بهم الارض بما رحبت ، لاسيما وان اغلبهم لا يملكون مصدراً للدخل او مكان يلوذون به في حال غدر بهم الزمان ، لكونهم لم يحسبوا ان الغدر لن ولم يكن من الزمان وانما سوف يأتيهم من اقرب الناس لهم ، ابناءهم الذين هجروهم من دون ان يبرروا لهم او يشرحوا دوافعهم ، فهناك اب ترك على الرصيف ، واخر امام جامع ، وام تركت في المشفى واخرى امام احدى اشارات المرور ، فيما هناك ابناء اقتدوا اباءهم وامهاتهم الى تلك الدور بحجة انهم سوف يجدون الرعاية الصحية والاسرية المطلوبة ، لجان مختصة تابعة لوزارة العمل والشؤون كان لها الدور الكبير في رصد عشرات الحالات لمسنين تركوا في العراء ، فضلاً عن مواقع التواصل التي لعبت دوراً كبيراً في توثيق قصص المسنين واظهارها للعلن .
تجاوز الطاقة الاستيعابية
في سابقة لم يعدها المجتمع العراقي وزارة العمل تكشف عن ان دور المسنين في بغداد تجاوزت الطاقة الاستيعابية لها اذ قالت مدير دائرة ذوي الاحتياجات الخاصة في الوزارة عبير الجلبي في تصريح لـ» الصباح الجديد» ان العاصمة بغداد تمتلك دارين للمسنين أحداهما في منطقة الراشدية وتضم 100 نزيل من كلا الجنسين، والأخرى في منطقة الصليخ وتضم 34 نزيلاً، قد تجاوزتا الطاقة الاستيعابية المحددة لهما ما يستدعي المزيد من التعاون والتنسيق مع الحكومات المحلية من اجل ارسال باقي المسنين الى دور المحافظات بغية ايواء تلك الحالات الانسانية في دور الدولة.
واضافت ان هناك دوراً في بعض المحافظات لا تضم سوى اعداد قليلة، اذ لا يوجد سوى اربعة نزلاء في داري البصرة وذي قار، فيما تضم دار المسنين في محافظة بابل 34 نزيلا ودار النجف الاشرف 26، اما محافظة ميسان فتضم دارها 22 نزيلاً وكركوك 18 ، في حين تضم دار الايواء في محافظة كربلاء 38 نزيلا.
رصد المسنين
واشارت الجلبي الى ان الوزارة تردها حالات انسانية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام الاخرى تخص اسراً فقيرة وحالات فردية لمسنين وعجزة ومشردين من بغداد والمحافظات، داعية في الوقت ذاته، الحكومات المحلية الى المزيد من التعاون وقبول الحالات الانسانية للمسنين والمشردين الذين يتم رصدهم، لا سيما ان الوزارة مستمرة بمخاطبة المحافظات بشأن ذلك.
واوضحت مديرة دائرة ذوي الاحتياجات ان الدور الايوائية ومعاهد العوق ورياض الاطفال لم تعد ضمن مسؤولية وزارة العمل والشؤون الاجتماعية واصبحت بعد فك ارتباطها من مسؤولية مجالس المحافظات وفقاً لقانون نقل الصلاحيات، مبينة ان الوزارة خاطبت الامانة العامة لمجلس الوزراء لغرض استثناء تلك الدور من هذا القانون وجعلها تابعة لها.
وذكرت الجلبي: انه على الرغم من ان تلك الدور اصبحت من مهام المحافظات بعد انتقال صلاحياتها، الا ان الوزارة ما تزال تتابع الحالات الانسانية التي تخص المسنين والمشردين في عموم المحافظات وهذا يدخل ضمن واجباتها الانسانية والاخلاقية تجاه تلك الشريحة.
فك ارتباط
وزير العمل والشؤون الاجتماعية المهندس محمد شياع السوداني بين من جانبه ان الوزارة باشرت القيام بجميع الاجراءات المتعلقة بنقل صلاحيات دوائرها الى المحافظات بعد صدور الامر من قبل مجلس الوزراء ، لافتاً الى ان وزارة العمل أول وزارة قامت بتحويل صلاحياتها إلى المحافظات بالرغم من قناعتها بأن هناك مشكلات كثيرة سترافق عملية التحويل منها أن الوزارة من الوزارات الخدمية التي تأسست في عام 1930 ،وفيها نظام وتعليمات وليس من السهولة نقل دور المسنين والايتام أو غيرها من صلاحيات وايكالها إلى محافظات قليلة التجربة ، فضلًا عن كون المحافظات تواجه تحديات والتزامات كبيرة٬ فلذلك أن دور الدولة للمسنين والايتام تواجه مشكلات عديدة وبدأت الوزارة تتلقى استغاثات بخصوص الخدمات المقدمة لهم .
نقل صلاحيات
واضاف: ان رئيس الوزراء في اخر زيارة له لأحدى الدور الايوائية للمسنين والايتام أشر هذه الملاحظة واوصى بمراجعة قرار ارتباط دور الدولة للمسنين والايتام بالمحافظات وكان يفترض أن ينظم اجتماعاً بالهيئة التنسيقية يحضره الوكيل والدائرة المختصة والمحافظات لمناقشة هذا الموضوع، مشيرًا الى: ان الوزارة باشرت بنقل جميع الصلاحيات ما عدا الدوائر المركزية مثل دائرة التقاعد والضمان وهيئة ذوي الاعاقة وهيئة الحماية الاجتماعية التي جاء قانونها بعد التعديل وصمم على ضوء الصلاحيات الممنوحة للمحافظات.
إخفاء المستمسكات
الباحثة الاجتماعية وجدان عبد السادة تحدثت لـ» الصباح الجديد» ،عن تزايد حالات ايداع المسنين في الدور الايوائية في بغداد والمحافظات ، التي وصفتها بالخطيرة والجديدة على المجتمع الذي عرف بترابط الاسري والعشائري الذي يعارض بنحو قاطع ايداع الابوين في دور الدولة ويعدها وصمه عار بحق الابن الذي يقدم على هذا التصرف ، مشيرة الى ان الظروف الاقتصادية وغلاء المعيشة ، فضلًا عن ارتفاع اسعار العلاج والمعاينة الطبية دفعت ببعض الابناء بإيداع ذويهم في دور الدولة بغية تقديم الخدمات الصحية والرعاية اللازمة لهم ، فيما يلجئ البعض الاخر الى ترك ذويهم في قارعة الطريق ولايكلفوا انفسهم عناء جلبهم لدور الدولة اذ لا يسمح بإيداعهم في تلك الدور من دون موافقة الشخص المعني ، او انهم يحاولوا الاستيلاء على ممتلكات ذويهم وهنا لا يسمح بإيوائهم من دون جلب المستمسكات التي غالباً مايخفيها الابناء .
أمراض اجتماعية
وتابعت عبد السادة :ان هذه الظاهرة ناتجه عن امراض اجتماعية تفشت خلال العقود الاربع الماضية نتيجة الاوضاع الاقتصادية والامنية واجتماعية التي افرزت مثل هذه الظاهرة ،اذ انشاء اول دار للمسنين لم يعلن عن كونها وصلت طاقتها الاستيعابية ذروتها، او نصف الطاقة ، بل كانت وزارة العمل دائماً هي التي توجه الدعوات لأسر المسنين لغرض ايداعهم في الدور التابعة لها والتي تتوفر فيها خدمات صحية واجتماعية ،فضلاً عن اعطاء مصرف جيب للمسن، الا ان الاهل هم الذين كانوا يرفضون ويستنكرون ايداع ذويهم او حتى مجرد مناقشة هذا الامر .
نكران الجميل
هذا وقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي قصص كثيرة لا يمكن وصفها بالغريبة او المبتكرة ، الا ان تفاصيلها امتازت بأعلى درجات الجحود ونكران الجميل ، اذ باتت قصص طرد الابناء للإباء والامهات مسألة اعتيادية لدى العديد من المتابعين لهذه الحكايات والذين يقومون برصدها بهدف المساعدة على ايجاد مكان لإيواء من جعل الله رضاهما بعد رضا ه عز وجل ، ففي العام الماضي قامت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بإيواء العشرات من الامهات والاباء بعد ان تم رميهم بالشارع من قبل فلذات اكبادهم ، وما زالت الوزارة تعمل على الوصول الى أغلب الذين يتم رصدهم من قبلها او من قبل بعض الناشطين او مواقع التواصل , اذ لم يكلف الابناء انفسهم عناء ارسالهم الى دور الايواء، وانما اكتفوا بتركهم على قارعة الطريق ,خوفاً من اي التزام مستقبلي يجبرهم على التواصل مع من حملتهم وهنا على وهن , او من اضاع عمره لتوفير لقمة العيش لهم .
حكاية «ام سعد»
بالعودة للغرابة والابتكار في اخر صيحات الجحود تروي ام سعد حكايتها حينما قامت زوجة ولدها بقضم اصبعها وبتره إثر خلاف بينهما تحول الى عراك وضرب من قبل « الكنة « للعمة المسنة، وبعد ان علم الابن الصالح بأمر الخلاف قام بطرد امه، وكفها ما زالت ينزف بعد عملية البتر التي قامت بها زوجته المفترسة التي لا يمكن ان يتخيل اي انسان كيف تمكنت من قضم إصبع ام زوجه با سنانها، وكيف يمكن لزوجها ان يأمن على نفسه منها كونها تعد من اكلي لحوم البشر.
وما كان من الام الا ان تستجيب لرغبة ولدها الوحيد وزوجته، وتقبل ان ترمى بعد منتصف الليل في الشارع بعد ان وصلت الى أرذل العمر وتتخذ من التسول وبيع المناديل مهنة لها في أحد شوارع بغداد.
« ام سعد « تنثر اواخر ايام عمرها الذي امضته في تربية ولدها على الطرقات وهي تفترش الارض , وتتدثر بعباءتها التي حملت لون حزنها المغبر من جراء غدر الابن وهجر الاهل والاقارب وتجاهل ما حل بها برغم من انها تنحدر من احد عشائر الجنوب الذين عرف عنهم التمسك بالأعراف والتقاليد التي لا تسمح بحدوث جريمة مماثلة لأي فرد من افرادها وان كان عاقاً او مجرماً او مدمنًا للكحول او قاتلاً فهي تضمهم تحت لواءها وتحميهم ، فيما تترك امرأة مسنة في العراء بعد ان ارتكبت بحقها جريمة بشعه بقضم اصبعها من قبل مخلوقة اقل ما يقال بحقها انها لا تمت للإنسانية بصله بمشاركة ولدها العاق ، لتظل الاعراف والتقاليد عرجاء وعمياء تجاه ما يصيب النساء ومشكلاتهم تعد او تدرج ضمن السياق العشائري الذي يعتمد على مبدى حل مشكلات الرجل اولا ً.
خواتيم العمر
رجال ونساء فنوا عمرهم لأجل أبنائهم الذين بدل ان كانوا السبب في ان يشيخوا قبل اوانهم ويتحول الى مسنين تناثرت شذرات اعمارهم هباء على الطرقات التي وجدوا أنفسهم يفترشونها من دون اي سابق انذار، مما جعل اغلبهم يفضل البقاء في الشارع ليروي قصته على المارة ويكون عبره لا باء وامهات قد يلاقون المصير نفسه على يد أحبائهم الذين تخلوا عنهم في أرذل العمر وتركوهم يعانون برد الشتاء وحر الصيف من دون ان يرتد لهم طرف عين.
ولكوننا لا نملك رادعاً قانونياً يمنع اتساع هذه الظاهرة فمن المتوقع ان تعلن المحافظات هي الاخرى عن عدم استطاعتها استيعاب اعداد جديدة من المسنين في ظل انعدام الرادع الاخلاقي والديني الذي كفل حق الوالدين وجعلهما في اعلى المراتب وامرنا بطاعتهما ومعاملتهما باللين والرحمة.