انمار رحمة الله
تتدحرج الكرة الصغيرة. يهرول وراءها الصبي ضاحكاً، بعد ان قذفها وارتطمت بالجدار ثم نطحها بجبهته، فأخذت مسارها لتستقر عند باب خشبي يفصل بين صالة وغرفة. يقترب الصبي من الباب ثم يهبط ليأخذ كرته. لكن الصوت الآتي من خلف الباب يمسك بأذنه. شاماً في الجو رائحة مألوفة لديه. يلصق أذنه بالباب مطلقاً العنان لها بالتنصت.. يملأ الأب الكأس ثم يطالع بقايا الفستق والحب المنثورة على صحن، يداعبها مفتشاً عن ملوحة تلتصق بأصبعه، ثم ينقلها إلى مجس لسانه المتشقق. مع خيط حرارة ينتقل من طرف جبينه إلى الطرف الآخر، مشتعلاً ببطء، ثم يبدأ القلب بالخفقان ،فتكاد أوردته أن تنفجر من سرعة تدفق الدم فيها، فيأتي الإحساس بالخدر ليهمين ويمنح الأبَ الشعور بالراحة. لم يلبث سوى دقائق ثم يملأ الكأس مرة أخرى ويتجرع السائل المعبأ بالكحول مرة واحدة.. يخترق صمتَ الغرفة صوتٌ ينادي (انبطح… ). يأخذ الأب نفساً عميقاً، يمسح العرق النازل على جبينه.. يرفع يده ويضعها على رأسه كمن يحتمي من شظايا، متحسساً طعم التراب في فمه والعرق ورائحة الجيف والبارود. (الطائرة تعود… ). يبحلق الأب في سقف الغرفة، ينظر إلى زواياها العتيقة مترقباً سقوط صاروخ آخر. وأحداقه تتسع كلما يسمع أزيزها، يسمع بوضوح أصوات الجرحى حوله، جندي قرب الأريكة مبتور اليد، وآخر متدل على شباك الغرفة وقد شُقت بطنه وسالت مصارينه إلى الأرض. (…احمل هذا الجريح)، ينهض بصعوبة ثم يقفز صوب جريح، يحمله و يصرخ بصوت عال (مُسْعف….مُسْعف).
يضرب بيديه على صدر الجريح، وتسيل دموعه صارخاً (سيدي… لقد مات). يخيم الصمت مرة أخرى، ثم يتمتم مخاطباً ما وراء السّتار(سيدي.. الجثث كثيرة هذا اليوم…الرصاص ينهمر علينا كالمطر). وحين لم يجد جواباً، يرمي بنفسه على أرضية الغرفة، زاحفاً صوب جثث القتلى. في الغالب محترقين، مشوهين، لم تتضح معالمهم ولا أشكالهم. يتساءل وهو يجس الجثث بكفه (هل بينكم سلام…؟! أين صديقي سلام؟).ثوان و وتنفجر قذيفة قربه، يأخذ عدة قلبات على شماله، ثم يحتمي وراء المنضدة. دبابة تقتحم المكان عبر جدار الغرفة، مالئة الفضاء بصوت محركها الذي ينفث الدخان، وصوت زنجيرها المسنن، وحركة البدن والسبطانة بحثاً عن فريسة.
يرتعب الأب ويكاد يخلع الفانيلة البيضاء معلناً استسلامه. لكن صوت الضابط الرفيق السياسي، يزجره من وراء الستار هاتفاً (أيها الخائن …هل تريد الانهزام من ساحة المعركة؟…هل تطلب بهذا خيانة الزعيم الكبير ؟ إياك والهزيمة أمام أعداء زعيمنا أيها الوغد الجبان). تسير الدبابة بلا مبالاة فوق المفروشات، تكسر الطاولة والأثاث، ثم تقترب من الأب، ينظر إليها ثم ينظر إلى الستار حيث يختفي الضابط الرفيق، يغمض عينيه لكي لا يرى مزنجرة الدبابة وهي تثرم ساقه. لم يصرخ، بل تجرع الألم خوفاً من أن يكُتب عنه تقريراً بالخيانة، أو يُعدم لأنه صرخ من الألم في حرب الزعيم.
(سلام) ينزل من السقف متدلياً من رقبته بحبل.
يخاطبه الأب بعينين دامعتين (سلام…يا صديق الطفولة )، يرفع سلام يده اليمنى مسلماً، ثم تسيل من عينيه دماء دموية محصورة. (سمعت أنهم اعدموك …منهم من قال أنك قُتلت في الجبهة !) تساءل الأب متابعاً (لكنني رأيتك بعد الحرب تسير في سوق المدينة، ومرة أخرى رأيتك جالساً عن النهر تصطاد، ومرة اخرى قالوا لي في المنزل أنك سألت عني حين كنت غائباً…أين أنت يا سلام ؟). يهز سلام كتفيه ثم يسأله الأب بعد ذلك (ألا يطول هذا الحبل قليلاً لكي تستريح قربي؟). يقلب سلام كفيه ليظهر باطنهما علامة حيرة، مما يدفع بالأب إلى مسك قدميه، وسحبه إلى الأسفل فينقطع الحبل ويسقط سلام في حفرة عميقة تكونت في وسط الغرفة. يصرخ الأب وراء صديقه الساقط بالحفرة (سلااااااااام….). ييأس من عدم الرد، يتوجه إلى كرك ركنه عريفٌ على الجدار ثم يدفن الحفرة بالتراب.
الأب على الأرض ينحب…كأنه يحمل كوكباً على رأسه من شدة الثقل.
يحاول رفع يده الخادرة ولكنه تقاعس، مع خدر في شفتيه وتضاريس وجهه الشاحب. ينام على أرضية الغرفة الباردة حتى الصباح.
يشعر الصبي بالهدوء في غرفة والده. ينهض على مهل مكملاً لعبته. يرمي الكرة باتجاه الجدار لتعود بسرعة صوب رأسه، ينطحها مرة أخرى ويضحك، واضعاً كفه بإحكام على فمه، ليكتم قهقهة كبيرة.