نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

الحلقة 15
هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الفصل الثامن
المكاتب الاستشارية العراقية
المكاتب الاستشارية المعمارية والهندسية ، دار العمارة – استشاريون في العمارة والهندسة والتخطيط ، المكتب الاستشاري للأبنية الصناعية ، العمل مع الشركات الاستشارية العالمية مخطط الاسكان العام للعراق ، أمام محكمة الثورة

وبتوسع اعمال مكتبنا ، اصبح بقاؤه في عمارة الخضيري غير ممكن . وبإنتهاء اعمال البناء في عمارة منير عباس الصغيرة ، التي صممها مكتب عبد الله احسان ورفعة الجادرجي في ساحة الوثبة ، قررنا الانتقال الى مكان اوسع في هذه العمارة ، يكفي لنشاطنا الهندسي المتنامي . كما انتقل مكتب عبد الله احسان والجادرجي ايضا الى الطابق الثاني من العمارة نفسها . وفي منتصف الستينات ، وبعد توسع اعمالنا ، قررنا تغيير اسم المكتب لرفع الصفة الشخصية عن تعاملاتنا . وبعد دراسة عدد كبير من الاسماء ، اختار شقيقي قحطان اسم ( دار العمارة ــ استشاريون في العمارة والهندسة والتخطيط ) ، ووافقت على هذه التسمية الجميلة . وعمل بتوجيه قحطان على الاسم الرمزي (logo) المهندس عدنان اسود وهو احد معماريي مكتبنا ، واعتمد لدى نقابة المهندسين . وفي الوقت نفسه اعتمدت المكاتب الاخرى الاسلوب نفسه مثل مكتب الاستشاري العراقي والخازن والروافد .
عندما اعلنت مسابقة وضع تصاميم عمارة مصرف الرهون ، قرر كل من اخي قحطان وعبد الله احسان كامل من مكتب الاستشاري العراقي المشاركة في المسابقة . وكأي مسابقة معمارية ، بدأ عمل المعماريين عبد الله وقحطان على عمل التصاميم في الايام الاخيرة قبل موعد التقديم . لم يكن لدينا من الرسامين من يتمكن من مواكبة متطلبات الرسم في الساعات الاخيرة ، لذا قمت انا ورفعة الجادرجي باعمال الرسم في الليلة الاخيرة
التي سبقت يوم التقديم . واتذكر ان قحطان وعبد الله خرجا لتناول العشاء زهاء الساعة العاشرة ليلاً ، وبقينا انا ورفعت مستمرين بالرسم باستخدام ادوات التحبير البدائية التي كانت مستخدمة آنذاك . وعند عودتهما علمنا بانهما اتفقا على تغيير بعض التصاميم للطابقين الارضي والاول ، مما يدعو الى تغيير لوحات الرسم . وعلى الرغم من امتعاضنا انا ورفعة على ذلك ، فان الرسم استمر الى ساعات متأخرة حتى تم اكمال اعمال الرسم في صباح اليوم التالي . وفي ظهر اليوم التالي قدمت التصاميم الى لجنة التحكيم ومن اعضائها المعمارية الن علي جودة والمهندس المدني نيازي فتو .
بعد اسبوعين التقى قحطان بالسيدة الن ، وقد شعرنا بانها كانت فرحة عند التحية ، مما يدعو الى التفاؤل بنجاحنا ، وبالفعل فازت تصاميمنا بالجائزة الاولى . وقد شيدت عمارة مصرف الرهون ونفذت بموجب خرائط المسابقة ، وهي اول عمارة متعددة الطوابق يقوم مكتبنا بالمساهمة في تصاميمها المعمارية وقام الاستاذ احسان شيرزاد بالتصاميم الانشائية الإنشائية . وبقيت لفترة طويلة من اجمل الابنية في بغداد .
اخذت اعمال المكاتب المعمارية تتوسع يوما بعد يوم ، مما دعا الى ضرورة اشراك مختلف التخصصات الهندسية الاخرى لوضع التصاميم اللازمة . وبدأت المكاتب بالاعتماد على المهندسين الاختصاصيين ، كالمهندسين الكهربائيين لمنظومات الطاقة والانارة ، والمهندسين الميكانيكيين لأعمال التكييف او التبريد ، والمهندسين الصحيين لأعمال الماء والمجاري . اضافة الى اعمال فحص التربة مختبريا ومعرفة مقدار تحملها .
كانت الاعمال التصميمية تعتمد الشروط العالمية المعترف بها ، كالمواصفات البريطانية او الأميركية لعدم وجود مواصفات عراقية كاملة وكان من الاعتيادي ان ترى مراجع علمية تخطيطية او معمارية او هندسية في قاعات الرسم في المكاتب ، وتجدد بين فترة واخرى حسب متطلبات العمل . وكان من السهل ملاحظة اعداد المهندسين المصممين في مختلف الاختصاصات ، في تلك المكاتب لتجعل من تلك معاهد علمية للبحث عن افضل الطرق واسلم الحلول التصميمية ، وتحليلها وفق المواصفات العالمية ، ومطابقتها لظروف العراق وطبيعته . فلا غرو ان نجد الخريجين الجدد من المهندسين ، ينخرطون في مكاتبنا للتعلم وتلقي الخبرات التصميمية بشكل مباشر .
بعد ثورة 14 تموز عام 1958 اتجهت سياسة وزارة التخطيط الى فسح المجال امام المهندسين الاستشاريين العراقيين للاشتراك في تصاميم المشاريع الهندسية بشكل اكبر واكثر لذا في اوائل الستينات ، اختيرت المكاتب لوضع تصاميم المستشفيات الصغيرة واعمال متخصصة اخرى . وأنيطت بمكتبنا ( قحطان المدفعي ومشاركوه ) الاعمال التصميمية لمصح في اربيل . وكانت هذه نقطة المباشرة في الانتقال من الاعمال التصميمية لمشاريع صغيرة الى مشاريع كبيرة . مما اتاح الفرص لمكتبنا والمكاتب الاخرى الى الاشتراك مع المكاتب الاستشارية العالمية ، وبالتالي نقل الخبرات الاستشارية العالمية الى العراق . وبدأ الاستشاريون العالميون يقدمون طلباتهم للمساهمة مع مكاتبنا في اعمال هندسية متخصصة . ولاشك انهم كانوا يسعون الى الحصول على الخبرات المحلية ، وتحقيق الاعمال نفسها بكلف عمل اقل .
فُتح الباب على مصراعيه للاعتماد على المهندسين العراقيين ، في وضع تصاميم المشاريع الهندسية الرئيسة في العراق . وشرع المهندسون العراقيون في اثبات كفاءتهم ومهارتهم لدى الاستشاريين العالميين . واصبح بإمكان الوزارات المختلفة دعوة المكاتب الاستشارية العراقية للاشتراك مع المكاتب العالمية في المسابقات المعمارية للمشاريع الكبيرة لوضع التصاميم الهندسية المطلوبة لمشاريع واسعة كتخطيط المدن والمشاريع الصناعية والزراعية والسياحية وسائر اعمال الهندسة المدنية المختلفة .
وبعد تحقيق هذه النجاحات ، اكتفى العديد من المهندسين العراقيين بالتركيز على الاعمال في العراق . غير ان بعضهم آثر الانتقال الى خارج العراق بصفة شخصية او فتح فروع لمكاتبهم لممارسة المهنة ، وفي منطقة الخليج العربي والمملكة السعودية على وجه التحديد . وهكذا نشطت مكاتب ( الاستشاري العراقي ) و( الدكتور محمد مكية ) و( مدحت وسعيد علي مظلوم ) في الكويت ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر والبحرين . وقد اثبتت هذه المكاتب كفاءة عالية في العمل ، الا ان تغير تعليمات السفر بين فترة واخرى والنظام الضريبي في العراق والضوابط المالية المتشددة في تحويل العملة وغيرها ، جعلت من ممارسة المكاتب اعمالها بشكل طبيعي تكتنفه الكثير من الصعوبات ، مما دعا البعض الى تأسيس مكاتب عراقية في الخليج لا ترتبط مع المكاتب الاصلية في داخل العراق . ان الصعوبات المذكورة حرمت العراق والنشاط الهندسي في العراق من زيادة الخبرات المعمارية والهندسية . وجعلت اولئك المهندسين يتفرغون للعمل خارج العراق . وبذلك خسرنا العديد من كبار المهندسين وخبراتهم.
بحكم الاختصاص والاقدمية قُسمت الاعمال في مكتبنا ( دار العمارة ) ، بحيث كان شقيقي قحطان المدفعي مسؤولا عن جميع الاعمال المعمارية والتخطيطية، ويرتبط به المعماريون العاملون في المكتب ، اضافة الى الامور التي لها علاقة بالخطط التنظيمية الرئيسية للمشاريع ، وكنتُ مسؤولا عن جميع الاعمال الهندسية من التصاميم الانشائية والاسس ووضع المواصفات وشروط العمل الخاصة والاعمال الموقعية كافة ، والاشراف على الجانب التنفيذي من الاعمال الموكلة للمكتب ، والتنسيق بين النشاطات الهندسية المختلفة مع المكاتب المتخصصة الاخرى كالكهرباء والتكييف . كما كنتُ مسؤولا عن الجانب الاداري للمكتب وعن العلاقات التعاقدية في مكتبنا او مع المكاتب الاخرى . لقد كانت ادارة اعمالنا ووضع سياساتها تتم بالتنسيق والحوار المستمرين بيننا . ولا اتذكر ان حدث اختلاف بيننا ، ولو كان بسيطا طيلة عملنا سوية .
عمل مع دار العمارة عدد كبير من المهندسين والرسامين ، طيلة مراحل اعمالنا وسنواتها الطويلة . وافتخر اليوم عند لقائي مع البعض ممن عمل او مازال معنا . كان مكتبنا معهدا متخصصا ، يلتحق به المهندسون كمصممين في المشاريع العاملة في المكتب ، فينهلوا من خبراته وتجاربه السابقة الشيء الكثير . وبعد سنوات من العمل معنا ، قد يترك هؤلاء مكتبنا ، لفتح مكاتب خاصة بهم او الالتحاق بالجامعات للحصول على شهادات عالية ، او العمل في المكاتب الهندسية في خارج العراق .

بعض من الجهاز الفني لـ «دار العمارة» في سبعينات القران العشرين
من المهندسين المعماريين الذين عملوا في دار العمارة وتدربوا على يد قحطان المدفعي ، وتعلموا من افكاره وابداعه ، اذكر السيد عدنان اسود الذي عمل معنا منذ تخرجه مباشرة في عدد من المشاريع المعمارية والصناعية لسنوات عديدة وكان عدنان مبدعاً في عمله ومزاجياً. والمهندس المعماري نزار حمدون الذي عمل على عدد اخر من المشاريع ومنها جامع بنية وكان هادئاً ولكنه كأنما يفكر بشيء اخر ، واذكر ان حمدون اختفى بعد حركة 17 تموز 1968 ، ولم يظهر الا بعد اشهر ، وهو يعمل في القيادة القومية لحزب البعث . كما عمل معنا لفترة طويلة المعماري بسام البير . كان بسام محبا لعمله ، واتذكر انه كان يعمل على الجوانب المعمارية لمشروع وزارة المالية ، وفي مساء احد الايام تركتُ المكتب وهو منهمك بالعمل ، وقال لي ان عليه اكمال العمل الليلة . وعند حضوري في صباح اليوم التالي وجدت بساما لايزال منهمكا في اكمال ما تحت يده من عمل ، فشكرته بحرارة على اخلاصه وتفانيه . وعمل معنا ايضا المعماري اكرم العكيلي لفترة طويلة ، ثم سافر الى الخليج العربي للعمل . اما المعمارية ( توني ) البلغارية فقد عملت معنا لسنوات طويلة منذ ان وصلت العراق مع زوجها . واذكر ايضا المعماري انيس جواد و فؤاد حداد الذي عمل معنا لسنوات طويلة ، وبعد عام 1979 تفرغ للتدريس في الجامعة التكنولوجية . ومن المعماريين الاخرين المعمارية ( كالينا ) الرومانية التي عملت لسنوات على عدد من الاعمال وبتفرغ لمعهد الدراسات العليا ونقابة الزراعيين .
من المهندسين المدنيين ، عمل معي المهندس حفظي بهية الذي باشر بالعمل على بعض اجزاء جامع بنية . وقد استمر بهية بالعمل لسنوات طويلة معي في فترة الدوام المسائي . وهو مهندس بارع وكفء ومواظب . وقد شجعته على الالتحاق ببعثة علمية للحصول على شهادة الدكتوراه . وبعد انتهاء دراسته عاد الى العراق ، وعمل معي على بعض المشاريع ، ومنها سوق الجملة في منطقة جميلة . ورشحته ليكون مدير الاسكان العام وعمل معي المهندس زهير البصري على تصاميم بناية وزارة المالية ومشاريع اخرى وهو من المهندسين واسعي الافق وله اهتمامات علمية وفكرية متقدمة . واذكر ايضا المهندس جعفر محمد علي المواظب والمثابر والذي عمل معي لسنوات طويلة ، واوكلت اليه الاشراف على مشروع المايكروويف في جميع انحاء العراق . واذكر ايضا المهندس صبري تللو الذي عمل معي على حساب الكميات وهو من القليلين في العراق الذي يعمل بشكل علمي على هذا الاختصاص. كما عمل معي ( دوام مسائي فقط ) على التصاميم الانشائية عدد من الضباط المهندسين في دائرة الاشغال العسكرية التابعة لوزارة الدفاع . لا يمكنني الان ان اتذكر اسماء جميع اولئك المهندسين الذين عملوا وتكاتفوا معنا بإخلاص وانجزوا اعمالا مهمة ورئيسية .
كنت اُنيط مسؤولية تصاميم شبكات الخدمات والخرائط كالكهرباء والتكييف والصحيات في المشاريع جميعا الى مكاتب استشارية متخصصة ، منها مكتب المهندس الكهربائي الدكتور مثنى كبة ومكتب المهندس الكهربائي ابراهيم الشيخ نوري وعيسى العزاوي ومكتب المهندسين عصام العاني وعبد الله البهادلي للأعمال الميكانيكية ، ومكتب حازم رسام لشبكات الاعمال الصحية ، ومكتب عدنان فرنكول لتكييف الهواء .
وكنا نحتفظ لمكتبنا ( دار العمارة ) بمهمة وضع التصاميم لشبكات الخدمات كالكهرباء والتكييف والتجميد او تقنيات عمل شبكات الخدمات والمتطلبات الخاصة التي درستها مع المجهزين لبعض المعامل الصناعية المتخصصة . كما كنا نحصر بمكتبنا الخبرات التصميمية لهذه المعامل ، ولسهولة توجيه مهندسينا المختصين في وضع التصاميم لتلك المنشآت . ان خصوصية العمل على مشاريع الصناعات الزراعية الخزن المبردة لمختلف انواع الخزن للخضر والفواكه ، او مخازن التثليج لدرجات حرارة 30 ـ 60 م تحت الصفر ، او معامل العلف والطحين واللحوم ، تحتاج الى تقنيات ومراجع هندسية علمية متخصصة ، لا تتوفر في المكاتب الاخرى . وقد استطعنا توفيرها في دار العمارة ، نتيجة زيارات دراسية الى المجهزين على مدى سنوات لتدارس المتطلبات المتخصصة الواجب توفرها في الابنية الصناعية من الجوانب البيئية والصحية وتقرفات المعدات والمكائن مثل اهتزازها وصيانتها وكلما تطلب ذلك لعمل جديد وللاطلاع على عدد كبير من المشاريع المماثلة في اوروبا وبلدان الشرق الاوسط ، أو زيارة المعاهد العلمية المتخصصة في تصاميم الخدمات المختلفة .
كان مكتب دار العمارة يعد من اكبر المكاتب الاستشارية في العراق ، ومنذ الخمسينات عملنا على وضع التصاميم الهندسية لعدد كبير من المشاريع . ورغم تكاتفنا مع مكاتب اخرى للعمل المشترك ، فقد كنا نفضل ان يكون لمكتبنا الدور الرئيس في تنفيذ الاعمال المشتركة . وعلى سبيل المثال اشتركنا مع مكتب المعماري سعيد علي مظلوم لوضع تصاميم بناية وزارة المالية ، فأخذ قحطان على عاتقه وضع التصاميم المعمارية كاملة ، وقمتُ بوضع التصاميم الانشائية ، ووضع المواصفات للأعمال وجداول الكميات . كما استعان بنا مكتب مهدي الحسني لوضع التصاميم ومواصفات الاعمال لمجزرة ومعمل اللحوم في الموصل ، وذلك لعدم توفر الخبرة لديه لمثل هذه الاعمال .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة