قد يُقال بواقعية ترتبط بالراهن العراقيّ، إنّ إصدار نعي لشاعر أو لشاعرين في ظرف معقد مثل الذي نعانيه الآن، سيمرّ مرور الكرام في نشرات الأخبار ورصد الوكالات والصحف، فهو في النتيجة حدث اعتيادي -بنظر بعضهم طبعاً- تتفوّق عليه مآس وآلام لا حدود لها، حيث طفل يسقط هنا في لجّة المعركة الجارية وعائلة تحزم حقائبها هناك لتهاجر بعيداً عن البلاد، ومجتمع يسيطر عليه الخوف والقلق من مآلات ما نحن فيه. ذلك كلّه بفعل مستجدات خطيرة تهدّد وحدة العراق ومستقبله.
وإذ ننعى إلى الشعراء والمثقفين العراقيّين والعرب، رحيل الشاعرين حسين عبد اللطيف، ومحمود النمر، فإنّه بدا من الواضح أنّ مكانة الثقافة وأهلها في تراجع مستمر، وتلك نتيجة طبيعيّة في مجتمعات مهدّدة تتعرّض إلى محاولات التمزيق وضرب وجودها الحضاري وغنى التنوّع فيها. لكنّ المؤلم في استمرار فقد المبدعين العراقيّين بهذا الشكل المرّ، أنّنا وصلنا إلى مرحلة باتت فيها أخبار الموت والخسران معتادة ومألوفة بشكل مؤسف، فمن يرحل على سرير المرض، من دون أدنى رعاية لائقة به بوصفه مواطناً عراقيّاً من أبناء البلد ذي الإمكانيات المليارية، لهو محظوظ منّت عليه السماء بنعمتها، إزاء من تختطفه سيّارة ملغمة أو رصاصة من مسدس كاتم للصوت.
وداعاً لحسين عبد اللطيف (1945-2014)، صاحب المسيرة الثرّة في المشهد الشعريّ العراقيّ، بمجموعات جدّد فيها أسلوبه وأدواته طوال أربعة عقود، منذ ديوانه الأوّل «على الطرقات أرقب المارّة» عن دار الشؤون الثقافيّة 1977، و» نار القطرب» عن «الشؤون الثقافيّة» نفسها 1995، مروراً بكتابيه «لم يعد يجدي النظر» دار الجمل 2003، و»أمير من أور» عن دار الينابيع 2010، وإلى كتابه الشعريّ الأخير «بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة – متوالية هايكو» عن وزارة الثقافة ببغداد 2012. وليست الاستعانة بكلمات الفقيد إلا سبيلاً لتجرّع هذه الخسارة، حقّاً يا ابن البصرة وشاعرها العميق:» سنوات؟/ أم تلك ضرائبْ/ لمَطالبِها… ما من حد؟/ ..هل أملك نفسي الجمعة/ لأبعثرها السبت؟/ هل أختلق الذكرى/ كي أضرب صفحاً عن ذكر الغد؟ ..».
وداعٌ ثانٍ لمحمود النمر (1955-2014)، الشاعر والصحافيّ المثابر، أيّام وهو يضيء الصفحات الثقافيّة باسهاماته وكتاباته، غادرنا تاركاً شيئاً من روحه في كتابيه الشعريين: «بيوت بلا قبعات» عن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق 2010، و»وصيفات سيدوري» عن دار المدى 2012.
لعلّك يا «أبا نمر» سألت قبل أشهر عن هذه الصيحة التي غيبتك إلى الأبد، عندما قلت: «الموت ُ يمنح ُصيحة ً خلفَ الكواكب/ من أوصل الموت الغرير إلى سماء الأرض ؟!/ من يخنقُ الأحلامَ في التسعين حتى لا يعيشُ الوردُ نوراً في البيوت؟..».
ويحّ الأوطان التي تدوس على أحلام شعرائها وتطلّعاتهم إلى غدٍ آمن، ويحّ المجتمعات التي تصرّ على بقاء الأصوات العاقلة أقلية ما من أحد يصغي إليها وهي تتسرّب من بين أيدينا يوماً بعد يوم.
بيت الشعر العراقي
تموز 2014