يبدو ان البعض بات يراهن كثيراُ على خديعة الخطاب اللغوي، بوصفه سيمولوجيا مباحة، وبوصف صنائعه ومجازاته أكثر تأثيراً في إحداث الصدمة السياسية والاجتماعية والنفسية. هذا الرهان يصطنع له أشكالاً للخديعة وللهيمنة، ولتوجيه هذه الهيمنة، باتجاه ابراز التسميات وكأنه دلالات تعبيرية واجرائية عن المسميات، وفي ترحيل الأفكار والمواقف من كونها مادة في الاستعارة اللغوية أو في سردية التاريخ أو في أحكام الفقه إلى مادة في الوقائع والاجراءات…
كلمة الغزو لها مقابلات لغوية وتاريخية معروفة، واشترطت لها عبر هذا الوصف ظروفاً موضوعية ودلالية، لكنها وعلى وفق قسر لغوي مريب تم ترحيلها من متون التاريخ الى مادة للاستعمال في الفقه العنفي الأصولي، وبإيحاء عصابي لمفهوم السيطرة والحكم، اذ تحولت عبر هذا الاستعمال الى مهيمنة سياسية وعسكرية تستبطن وعياً قهرياً ورهابياً، وهو مانجده اليوم في خطاب الجماعات الإرهابية، وفي أجهزتها الثقافية الفكرية والخطابية، فالغزو هو احتلال وهيمنة واقصاء واخصاء فكري وعقائدي، وفرض آلية ضاغطة للحكم، مثلما هو سياسة تنزع الحاضر لصالح الماضي، وتقصي أي شكل لحكم المؤسسة لصالح حكم الجماعة، وتفرض شكلاً استلابياً للحكم يقوم على ثنائية الايمان والكفر، وهو مايعني فرض شروط هذا الايمان الافتراضي على أصحاب الكفر من الملل والنحل والجماعات الأخرى..
ماتعبّر عنه الجماعات الارهابية اليوم في خطابها السياسي والأيديولوجي يعكس هذا المعطى، وبرز ذلك الرهان على تاريخ السلطة القديمة، اذ نجد (ثقافة الغزو) وكأنها الثقافة الاشهارية التي تحمل معها سيمياء الموت للآخرين، والتكفير لهم، واقصاء الجماعات خارج سياق المشاركة والحاكمية بوصفها خروجاً عن الملة والأمة، وان أتباعها من (الأغيار) أو من(أصحاب الذمة) أو من(الخوارج) وان غزوهم جائز شرعاً، وان قتلهم من مجازي الحسنات..
هذا الفهم يؤكد منزع الرعب الذي تحمله هذه الأفكار، ومايمكن أن تحدثه من ضرر ومكاره على النسيج الاجتماعي المتعدد الاثنيات والثقافات، إذ أن الفرض والتكفير والقهر يؤدي الى الصراع والخلاف والى العنف على أسس طائفية تتضخم وتغلو فيها الأفكار والمواقف، وكلمة الغزو التي تحمل هذا الهاجس الخلافي هي الأكثر إثارة في التعبير عن الحمولات الشوهاء للتاريخ، ولمفهوم الحكم، إذ أن أية مراجعة لوثيقة المدينة التي أعلنها الرسول محمد بعد دخوله اليها تعكس فهماً إنسانياً واسعاً لمفهوم الحكم ولطبيعة مايمثله من معان سامية، فضلاً عن مايعكسه من تصورات تقوم على ترسيم حدود العلاقات بين المسلمين وغيرهم عبر حفظ الذوات والذمم والحقوق والمصالح، وهو مايعني إدراكاً لمسؤولية هذا الحكم الرسالي من دون فرض أو اكراه، وعلى وفق آلية لاتبيح القتل والمصادرة والقهر.
ان اشاعة ثقافة الغزو بوصفها ثقافة لفرض النوع الواحد والفكر الواحد، وتصغير الآخرين واستعبادهم يناقض جوهر الرسالة، وجوهر الفكر العميق في أصوله ومتونه وشروحه وحمولاته، لذا لامندوحة الاّ بمواجهة هذه الثقافة المرعبة التي باتت أكثر الثقافات العنصرية تعبيراً عن فرضية الموت قهراً وصبراً..
علي حسن الفواز