علوان السلمان
النص الشعري..نتاج وعي فكري وجمالي يحققه المنتج(الشاعر) بتحريك الواقع وتفجيره عبر لغة ايحائية خالقة لصورها المنبعثة من تمازج الذاتي بالموضوعي..كون(الاصل في العمل الفني هو الاحساس..)..على حد تعبير الفيلسوف الايطالي كوتشي..
..وتاريخيا تحدث النقد الادبي عن التكثيف والمجاورة بعد ان اهتدى الى قوانين القول الشعري التي انحصرت في(اللفظ ومعناه) من جهة..واللفظ وجماله من جهة اخرى..ومن هذه الثنائية الضدية(اسس الشكلانيون الروس نظامهم المعرفي النقدي الحداثي القائم على تحاور الثنائيات في العمل الادبي)..بوصفه مساحة تأسيسية لتشييد النص الشعري مبنى ومعنى..بتوظيف لغة ايحائية تنحو منحى واقعيا وتشكل المحور الذي تنطلق منه رؤية المستهلك(المتلقي) الذي يستنطق صوره ويكشف عما خلف الفاظه..فيعلن عن الرؤى المنتجة وما ينبثق منها من معالم مضمونية وافكار مستفزة للذاكرة ونابشة لخزينها المعرفي..
وباستحضار المجموعة الشعرية(ليل سمين) بنصوصها النابضة بالحياة وموجوداتها بعد ان بئرت عوالمها انامل مبدعها ومهندسها الشاعرعلي فرحان واسهمت دار ميزوبوتاميا في نشرها وانتشارها/2016..كونها نصوص منفتحة على آفاق دلالية وقيم اجتماعية بكل اشكالها(النصية والنصية القصيرة جدا(الوامضة والشذرية)..من اجل تحقيق موقف انساني..فضلا عن قيمتها الجمالية الخالقة لخطاب يتكىء على فضاء دلالي عبر بنية يغلب عليها الانزياح الذي يكشف عن اكتظاظ المخيلة الشاعرة بالمعطيات الحسية..ابتداء من العنوان العلامة السيميائية المستلة من متن احد نصوص المجموعة(نجوم نحيلة)..
ليل سمين
يزدرد النساء في الشرفات
ويتلف الصبية بكوابيس تحت الشمس) /ص5..
والتي تجمع ما بين بنيتين(زمانية ومكانية) بفونيميها الدالين على انسنة الظرف الزماني مجازا..وهو يستدعي المستهلك(المتلقي) لرحلة مكتظة بعوالمها الخصبة بالرؤى والاحاسيس باسلوب شائق يعتمد التكثيف الجملي والتناغم الصوري..
ـ وحدنا ندق باب الصلاة
فتزفر المئذنة أنبياء كسالى
أو محاربين برائحة الخشب
ـ نعلم ان المدينة احتمال المكوث..لكن شَعرنا الذي
يطول ينبيء بصلع الفكرة
أو هوس الاصابع عندما فاجأها تبعثر الجسد
وصلاة الشهادة
أقصد شهادة الوفاة المصدقة بختم الحرب الشرعي
أو بختم البلاد المعجونة بالغبار.. /ص5 ـ ص6
فالشاعر ينشغل باشكاليات الواقع ومقاربة اليومي فيتفاعل والتجربة الواقعية بما فيها من انكسارات وخيبات..كونه يشتبك مع بعضها ويقيم علاقاته التفاعلية واليومية ليبني شعريته على التقابل بين عالمين متضادين هما: الذاكرة(المتخيل) والواقع(الموضوع)..
لانني زجاج
(سأنطح) ظلها لتتكسر كريات دمي وتسيل
وسيصبح ظلها لزجا
التاج نائم بحبور على رأسها
ياه………..
التاج نائم بحبور على
ال ق ص ا ئ د /ص56
فالشاعر يقتنص اللحظة باستخدام اسلوب التصوير السريع لتحقيق مشهدية متفردة بدراميتها الحركية التي تنفذ الى اعماق الذات للكشف عن دواخلها بما امتلكت من ايحاء لفظي وتكثيف جملي لخلق شكل من اشكال الحداثة التي تحالفت والتحولات الفكرية والفنية والمؤثرات الخارجية لخلق عوالمه المسايرة للعصر الذي وسم بعصر السرعة..وهو يعبر عن احساس شعوري او مشهد وامض..مقتصد بالفاظه وموجز بعباراته..متفرد بخصوصيته التركيبية مع ايحاء وتفرد في الايقاع والصورة المنبثقة من لغة رامزة وفكرة منبعثة من بين ثناياه..فضلا عن احتشاء الذات المنتجة داخل عوالم النص وتراكيبه..لذا كانت حركتها الداخلية حضورا فاعلا يفوق حركتها الخارجية باعتماد لغة ادراكية تخاطب الفكر قبل العاطفة..فيتماهى معها بتدفق وجداني منبعث من دائرة الوعي الشعري المؤطر لعوالمه الصورية ودلالاته الموحية بتقنيات فنية شكلتها مجموعة من المهيمنات داخل بنية النص تجسدت في التنقيط(النص الصامت والبعد التشكيلي) الذي يعد عنصرا بنيويا مؤديا للتأويل..باستدعاء المتلقي لمليء بياضاته بما يناسب فحواه..وتوظيف الالفاظ العامية(نطح/علاكة/الزركة..)..للكشف عن الانتماء البيئي المكاني.. اضافة الى التشظي الحرفي البصري الذي يكشف عن دواخل الذات النفسي..
ـ لا تتلفظي
اسمي امام العصافير
لانها ستتخذ فمك عشا.. /ص110
ـ لا تغسلي قدميك بماء الفرات
لانه سيغير مجراه نحو منزلك.. /ص111
فالشاعر يحاول تبئير الكلمات والجمل من اجل تحقيق ازاحة واعية مقترنة بقول النفري الصوفي(كلما اتسعت الرؤية..ضاقت العبارة)..مع استنطاق اللحظة الشعرية عبر نسق لغوي قادر على توليد المعاني من اجل توسيع الفضاء الدلالي للجملة الشعرية المكتظة بعناصر(الزمن والحركة والحدث..)اضافة الى العاطفة المنسابة بهدوء من بين الثنايا الصورية الكاشفة عن مكنونات الذات وانفعالاتها وعمق احاسيسها..مع مفارقة اسلوبية ادهاشية..
اللافتات السود تخنق الجدران
الجدران تتقوض تحت الارواح
الارواح ترفرف مع البنفسج
البنفسج ينام بمرح الغياب
الغياب يصافح…اللافتات / ص52 ـ ص53
فالنص بمجمل تحركاته الرامزة ودلالاته اللفظية المعبرة عن الحالة الشعورية والنفسية باسلوب دينامي حالم..وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرته التعبيرية المختزلة لتراكيبها الجملية المتجاوزة للمألوف الشعري شكلا وتعبيرا..اذ عمق الاحساس ونفاذ الرؤية التي امتلكت خصوصية التشكيل اللغوي المتميز بايقاعه الذاتي وانثيالاته بكثافة لغوية خالقة لصورها الشعرية..فكان تشكيل النص وفق تصميم ينم عن اشتغال يعتمد الجزئيات وينسجها نسجا رؤيويا يرقى من المحسوس الى الذهني..
وبذلك قدم الشاعرنصوصا تنوعت في بنائها بمشهدية سيمية منفتحة على التأويلات والاسئلة..فضلا عن اخلاصه لعوالمه من خلال اهتمامه بالبنية الدرامية المكثفة والفكرة المضمونية وعنصر المفارقة والتركيز على البنية المكانية باعتبارها منظومة ثقافية..اجتماعية داخل مسارات النص..