د.ثائر العذاري
في السنوات الأخيرة انشغلت أقسام الأدب في الجامعات العربية بفكرة (النقد الثقافي) بالمفهوم الذي قدمه د.عبد الله الغذامي في كتابه الذائع الصيت (النقد الثقافي- قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، فكتبت مئات الأبحاث والرسائل والأطاريح بعنوانات مثل (شعر فلان في ضوء النقد الثقافي) و(الأنساق الثقافية في خطب فلان) و(مقالات في النقد الثقافي) وهكذا. لكن معظم هذه الكتابات الأكاديمية (بالقدر الذي أتيح لي الاطلاع عليه) كانت تجتر المقولات النظرية للغذامي، بينما لا تفلح في تطبيقها بصورة مقنعة. ونظن أن ذلك حدث لسببين؛ الأول: انعدام الدقة في فهم فرضيات الغذامي في كتابه، والثاني: أن تلك الفرضيات، في الممارسة التطبيقية، لم تستطع تطوير الإجراءات المنهجية اللازمة.
من المهم، بدءا، الإشارة إلى أن مفهوم النقد الثقافي عند الغذامي هو مشروعه الخاص، وهو مختلف تماما عن Culturer criticismعند الغربيين، فهذا المصطلح الذي يمكن أن نجد جذوره في القرن التاسع عشر في كتابات ماثيو أرنولد وتوماس كارلايل، لكن من استعمل المصطلح وحدد مفهومه هو (جاك بارنوز) المؤرخ الأمريكي من أصل فرنسي عام 1934، ويعرف بارزون بأنه (مؤرخ أفكار)، لأنه كان معنيا بتأريخ التطور الفكري، والمصطلح (النقد الثقافي) عنده يعني البحث في أثر التطور الفكري في المدونة الثقافية بما فيها الأدب، وهذا يفسر تنوع كتاباته التي منها الكتابة عن البيسبول والرواية البوليسية.
أما المصطلح الذي وضعه الغذامي فهو يشتغل في مغاير، وهو فكرة الأنساق الثقافية المضمرة في الثقافة الجمعية العربية (وهي مضمرة لأنها أنساق مخجلة، وهذا كلامي ولم يقله الغذامي).
تمثل تلك الأنساق الشيفرة الجمعية التي تشبه برامج الكومبيوتر، فهي توجه تفكير الفرد من غير أن يشعر، ومهما حاول الأديب إخفاءها فإنها ستخلق الحيل التي تتسلل منها إلى النص الأدبي، والغذامي يرى أن البلاغة والشعرية هي أكبر الثغرات التي تحتال الأنساق الثقافية لفرض نفسها عبرها.
ويشترط الغذامي في النص ليكون قابلا لأن يكون موضوعا للنقد الثقافي أن يتضمن نسقين متعارضين الأول تكتبه الثقافة الجمعية لا المؤلف وهو خفي مخاتل والثاني ظاهر مضاد له وهو الذي يتجسد في لغة النص وأسلوبها البلاغي والشعري. ولذلك يضع مصطلحا آخر وهو التورية الثقافية، فالنص الأدبي الذي يحاول كاتبه جعله شخصيا معبرا عن الأفكار التي يريد أن يقنع القارئ بأنها أفكاره هو، ذلك النص يخفي في بنيته العميقة نسقا فرضته الثقافة الجمعية المتوارثة، لأن الغذامي يشترط أن يكون النسق عريقا في التاريخ توارثته الأجيال. والنسق الأكبر الذي يركز الغذامي عليه هو (الفحولة) الذي يدل (وهذا فهمي وليس كلام الغذامي) على معنى جنسي، فضلا عن تمثيله للسلطة والقوة. ومن هذا النسق تتفرع كل الأنساق الأخرى التي تحدث عنها الغذامي.
لا شك أن الجزء النظري من كتاب د.عبد الله الغذامي مقنع بل مبهر، لكن الجزء التطبيقي يثير تساؤلات ويستدعي اعتراضات. ففي دراسته لنزار قباني مثلا، لا يتوفر الشرط الذي وضعه، وهو وجود النسقين المتعارضين، فنزار واضح في تصريحه (بفحولته) ونظرته إلى المرأة بوصفها جسدا وموضوعا للشهوة، فما الذي كشفه النقد الثقافي من مضمر لا نعرفه في شعره. وهذا ما حدث لدراسات كثيرة كتبت في الجامعات العربية، فهي تتحدث عن نسق مضمر لكنها في التطبيق تشير إلى ما هو ظاهر وبين.
يفتقر البحث عن الأنساق المضمرة في النص الأدبي إلى إجراءات علمية منهجية يمكن الاطمئنان إليها، فالباحث يبدأ عادة بالقول أن هناك نسقا ثقافيا مفاده كذا، وإن هذا النسق مضمر في قول الشاعر كذا، لكن الجميع لا يمر بخطوة مهمة قبل هذا الإجراء، وهي إثبات وجود النسق الثقافي أولا، وهذا ما لم يفعله الغذامي أيضا، فقد قرر وجود نسق صناعة الفحل، ولكنه لم يبين كيف توصل إلى أن هذا نسق قار منذ القدم وإلى الآن، والسؤال المهم هنا هو ما الإجراءات التي ينبغي اتباعها لإثبات وجود النسق الثقافي أصلا؟ ويبدو لي أن الجواب موجود في عرض الغذامي الموجز لكتاب فنسنت ليتش (النقد الثقافي)، الذي يقرر أن هذا النوع من النقد «يستخدم المعطيات النظرية والمنهجية في السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة والمؤسساتية….»
في النهاية أرى أن كتاب الغذامي مفصل مهم في الدراسات الأدبية العربية، وإنه أضاء زاوية لم يضئها أحد قبله، لكنه قال في هذا الكتاب كل ما يمكن قوله في الموضوع، وإن أي دراسة أخرى تحاول انتهاج المنهج نفسه لن تكون سوى عملية (لت وعجن) لمقولاته، ثم لا توصل إلى منجز جديد.