حيدر خشان ياسين
مازال الشاعرُ الجواهري حيّاً في ذاكرة وطنه الجريح، وهو ينفث حسرته بقصائده التي تنساب كالنسيم البليل على شواطئ دجلة الخير. عاش الجواهري طويلا وعانى طويلا أيضا وتقلّب كثيرا إثر الانقلابات التي حدثتْ على أرض العراق، لبس العمامة في ريعان شبابه، ولأسبابٍ كثيرة- سطرها في ذكرياته التي كتبها بجزئين بين عامي(1988-1991)- خلع عمامته وهجر بيئة الطفولة في النجف، ليخطَّ طريقه الذي أحب. وفي هذا الطريق كانت للجواهري هفواتٌ وعثراتٌ كثيرة اعترف بها في مذكراته، لأسبابٍ بدأت من الطفولة المصادرة وحتى الشيخوخة ،إذ يقول: (إنني أعيش مرارةَ تلك الأيام حتى الآن، لأني دفعت طفولتي ثمناً لها. وكانت السبب في كل هفواتي وسقطاتي اللاحقة بدافع طموحات لم أخلق لها. دفعت الثمن غاليا أيضا عن عقدة جديدة علي، لصقت بي قبل الأوان بكثير. فقد شاء والدي ولسوء الحظ، أن يدفعني دفعاً إلى عالم الكبار ووجاهتهم المتزمتة مختزلاً طفولتي فوق ما تتحمل، بل لاغياً لها أحيانا).
الجواهري الذي كتب للحسين -ع- قصيدة «آمنت بالحسين» في عام 1947،ببراعةٍ وعبقريةٍ غير معهودتين إلا منه، نراه في مذكراته لا يقل صدقاً وصراحةً عما عهدناه مع الحسين، مع الفارق طبعا، بأن اعترافاته تتراءى له أشباحاً وكوابيسَ حتى آخر لحظة في حياته، وهو نادم عليها أشد ندم، إذ يقول:( في مرحلة العز وأوج الشموخ، ومرحلة التفاف الجماهير حول قادتهم، وفي مرحلة تهيب الحاكمين-وحتى الطغاة منهم- من مسِّ أي مواطن، في هذا الجو وفي فترة لم يمر علي أعز منها منذ بداية الأربعينات، تراني أنحدر انحداراً لم أنحدر مثله طيلة حياتي والأكثر إيلاماً في ذلك الانحدار أنني أردته بمحض إرادتي وبدون أية ظروف ضاغطة وبدون أية مساومة وبدون أي مقابل).
ثم وصل لمرحلة الملك فيصل الثاني ليرتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه مع من قبله ،حيث يقول: (إنها زلة العمر التي ظلت عالقة بي طيلة فترات طويلة حتى بعد أن «كفرت» عنها، وبعد أن نهضت من كبوتها وأنا أخلف «غاشية الخنوع» ورائي، ومع هذا فقد أوقعت نفسي في عذاب الضمير ،ولاحقت نومي بالكوابيس، وهوت بإرادتي الى ما لا أشاء لها، ألا وهي «قصيدة التتويج» التي قلتها في مديح فيصل الثاني، لقد اغتصبت في تلك الزلة ضميري وما أصعب أن يجد المرء ذو الحساسية ضميره مغتصبا، وممن؟ من ذاته ! …..).
ثم جاءت كفارة هذه الزلة بقصيدة « كفّارة وندم»، إذ يقول لنفسه:
ولا يتهضّمْك انخفاضٌ فطالما
تخفَّضَ نسرٌ صاعدٌ وعقابُ
وشامخةُ الألواحِ يُلوى عنانهُا
مع الريحِ ،والمحضُ الصراحُ يُرابُ !