رؤيا حميد ياسين
القسم الاول: التكعيبية
كانت التكعيبة واحدة من الحركات الفنية في القرن العشرين التي تعنى في بناء الأشكال على أسس جعلت من الهندسة أصولها للتعامل مع الأجسام , ومن ثمة اضحت القدرات الإبداعية تتعاضد مع القوانين الرياضية لتشكل التكعيبية بمظهرها التجريبي وهي أشد الحركات الفنية حسماً للصراع الفكري في الربع الأول من القرن العشرين ، بل وتعد من أهم الحركات الفنية الطليعية التي أسهمت في إطلاق شرارة الحداثة في الفن التشكيلي ، إذ تقدمت بالخطوات الاولى لمسيرة التغيير التي طرأت على أساليب التعبير الفني التي بلغت في الرسم مرتبة عالية واضفت على الفنون الاخرى في اوروبا طابعا تجديديا ذاعت تأثيراته فيما بعد على البلدان الاخرى واجتاحت التيارات الفنية في عموم اوروبا وشتى بقاع العالم لتصل تأثيراتها الى جميع التيارات الفنية وامتدت الى العمارة والصناعة وفنون الكتابة والمسرح والموسيقى وتصميم الازياء ، وبهذا المعنى يمكن القول إن التكعيبية حركة فكرية تنزع إلى ايجاد رؤية جمالية موحدة لجميع الفنون الابداعية من اجل الوصول الى مفهوم واضح للحداثة.
حتى ليمكن القول إن التأثير الذي تركته التكعيبية على الفنون الابداعية كان قد أمتد الى السنوات اللاحقة التي برزت فيها تيارات اخرى كانت التكعيبية قد مهدت اليها بما أمتلكته من عوامل ومؤثرات وظروف عدة وحتمت على المؤرخين والنقاد أن يتناولونها بجدية عالية ، عندما اعتبروا فناني باريس على قلتهم هم الذين حركوا أسسها ومفاهيمها وبصورة خاصة بابلو بيكاسو وجورج براك ، وبلغوا بها القمة بين عامي 1905 الى 1906 ، عندما عمدوا الى اجراء تغييرات جوهرية على نتاجاتهم التي تأثرت كثيرا بالفن الفطري الافريقي ، وقد أتسم ذلك في التغيير الكبير الذي أحدثوه على رسومهم وبشكل خاص بابلو بيكاسو الذي أقترب في ذلك التغيير من التشويه ، غير أنه استطاع أن يجعل من رسومه مثار اهتمام كبير من قبل النقاد والمتلقين ، وقد تركزت التكعيبية في التجزئة والتقطيع والتشويه الذي تجلى بأعمال بيكاسو وجورج براك ، إذ بدا الواقع مجزءا ومختلا ولم يعد منسجما ومتوافقا كما كان في السابق ، ذلك لان الثورة الصناعية والانفجار التكنولوجي كانا قد هيئا المناخ الملائم لانبثاق الاسلوب الجديد الذي أتسمت به التكعيبية ، وقد بدا ذلك واضحا بالتحليل النفسي الفرويدي الذي أتاح أمكانية تفسير الذات من منطلقات انسانية وجعلها تتمحور في جملة من الصراعات والتناقضات السايكولوجية والعاطفية ، الامر الذي جعل التكعيبية تتحول من التصور الفني الى التوصيف المظهري للأشياء واستقراء الاحاسيس الباطنية ، وعزز ذلك التوجهات الجديدة للفكر الفني وجعله يتجه نحو رؤية مركبة وتباينات كان يلتقي عندها التفكير الثقافي بالتفكير الادائي.
غير أن التكعيبية كانت تسعى الى إيجاد المثل العليا للمواءمة بين الفكر والاداء ، إذ كانت تتجلى في العديد من العوامل الرياضية والهندسية التي جعلتها أشكالا جمالية في رؤية استبصارية تبدو فيها الاشكال والتكوينات التي أصبحت منظومات بنائية أعيد تركيبها على وفق أفكار جديدة تجلت فيها التجريدات البصرية والهندسية وغدت أشكالا حداثية تعبر عن رؤية فكرية شاملة وعن رؤية فردية للمصمم الذي وظف جميع تلك الافكار والمفاهيم في التصميم ، بعد أن عرف بالتحليل ما هو المرئي وما هو اللا مرئي في حقيقة بحثه المرهون بالتجربة المعمقة والممارسة الدقيقة لاستنهاض أسلوبه الذي يكمن في داخله ، وأضحى ايقاعا مؤثرا في وجود منطقي أستلهم موضوع العدد والعلاقات الحسابية كي يتوصل في الاخير الى جمالية انعكست عبر مسار طويل مما تجسد أمامه من أشكال وكائنات حية وخطوط مستقيمة ودوائر ومسطحات وحجوم عبر منظورات شتى ، مما جعل القيمة الجمالية تقاس بالعلاقة المتآلفة في عقل المصمم الذي تخطى الواقع المحسوس للبحث عن شكل غير مرئي كامن في الجوهر.
من هنا كان تصميم الاقمشة والازياء قد بدا متجانسا مع التكعيبية فيما بعد على استخدامه المنظومات الورقية وتنوع الخامات وإظهار الفكرة الجمالية ، إذ كان مصمم الاقمشة يفكر على وفق أسس جمالية لها مرجعيات غائلة في القدم أستحضرها عبر تفكيره المحدث ، فبلغ التصميم مكانة مرموقة في الحداثة وسماتها التكوينية والتركيبية مع مجمل ما كانت تسعى إليه حركة التطور الابداعي ، وفي مقدمتها التكعيبية التي كانت أقرب من غيرها الى تصميم الاقمشة بما ولدته من نتائج مبتكرة ومستحدثة أسهمت الى حد كبير في تطور مستويات التلقي وما أفرزته الحداثة بشكل عام عن مكنونات جوهرية تجلت في تصميم الاقمشة والازياء ، وقد كانت مادلين فيونيه (1876-1939) أهم مصممة تأثرت بالمدرسة التكعيبية وسارت على نهجها ، إذ يتجلى أسلوبها التصميمي خلال نظرة متطورة لأقمشة وازياء النساء ، ولعبت دورا مهما في تاريخ الموضة وظهر ذلك واضحا في تصميماتها التي كانت ترتديها نجمات هوليوود.
ومن أجل التأكيد على المنهج التكعيبي في تصميم الاقمشة والازياء لابد من الذهاب الى متحف التزيين الفرنسي الذي تبرز فيه أعمال المصممة العالمية (مادلين فيونيه) التي كانت قد تأثرت الى حد كبير بالرؤية الجمالية للمهندس المعماري العالمي (لوكوربوزيه) الذي بث روحا جديدة في الهندسة وأنتهج اسلوبا تكعيبيا وعرف في بيانه المعماري الذي قال فيه (كل شيء ينتظم وينبسط ويخلص من الزوائد) ذلك الذي استوحته فيونيه من لوكوربوزيه وصممت أثوابها تصميما تكعيبيا وحاكت أقمشتها بالمربعات والمستطيلات والدوائر ، إذ أن توقها الشديد للهندسة هو الذي دفعها الى ابداع قصاتها الفريدة التي تمثلت بالأشكال الهندسية ولعل أبرز ما قدمته مادلين فيونيه هو زيادة الثنيات في تصميمات الفساتين فضلا عن دراستها الدقيقة لقصات الازياء بما يتلاءم مع أجساد النساء وأشكالها الطبيعية ، بل وكانت فيونيه تولي اهتماما كبيرا لاختيار الانسجة التي تناسب حركات الجسد وكانت تفضل الانسجة اللينة كالحرير والقطيفة والساتان ، حيث تميزت ملابسها بالانسدالية ، من هنا يمكن القول إن مادلين فيونيه كانت مثالا للمصممة التكعيبية ، إذ كانت تتعامل مع التصميم والخياطة والتفصيل على وفق نظرة فنية قريبة جدا من الاسلوب التكعيبي الذي كان ظاهرا على اعمال بيكاسو وبراك ، ولعل اختيارها للألوان كان أبرز ظاهرة في تصميماتها تعبر عن تأثرها العميق بالمدرسة التكعيبية وبمعنى أدق كانت تنظر الى أزياء النساء وكأنها لوحات تشكيلية كما في الشكلين رقم(1) و(2).
تأثر العديد من المصممين بطريقة فيونيه المبتكرة في قص القماش بصورة متعرجة ، وقد نجح هذا الاسلوب في أضفاء نوع من المرونة على القماش وذلك قبل اختراع الليكرا بمدة طويلة وذلك لان الفساتين المقصوصة بهذا الاسلوب تركز على إبراز مفاتن الجسد بصورة طبيعية ، وقد أستمرت التأثيرات التي انبثقت عن تكعيبية بيكاسو وجورج براك حتى الوقت الراهن حيث التصاميم التي عبرت تعبيرا صادقا عن الغايات التكعيبية وكانت مثالا للتعبير عن نوع خاص من الانوثة في لوحة بيكاسو كما في شكل (3).