نادية عبد الغفور
“حينما تُهمل الأرض الخصبة: كيف أصبحت هذه المدن رمزًا للتطور ومدن الجنوب نموذجًا للخراب؟” إن التفاوت في مستوى التطور بين المحافظات السنية مثل الأنبار والمحافظات الشيعية مثل السماوة والديوانية والناصرية يشير إلى قضية معقدة متعددة الأبعاد تتطلب تفحصًا عميقًا لأسبابها ودوافعها. لفهم هذه الفجوة، يجب النظر إلى مجموعة من العوامل السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكذلك التأثيرات الداخلية والخارجية التي شكلت أوضاع هذه المناطق عبر العقود. على الرغم من أن الحكومة العراقية تدار بأغلبية شيعية منذ عام 2003، إلا أن المحافظات ذات الأغلبية الشيعية لا تزال تعاني من مشاكل تنموية كبيرة، تشمل التدهور العمراني والاقتصادي وحتى تراجع الأنشطة الثقافية. الأسباب السياسية والإدارية تمثل جزءًا جوهريًا من المشكلة. فقد تكون هناك سياسات إدارية مركزية تفتقر إلى التوازن في توزيع الموارد والتنمية بين المناطق، ما يجعل بعض المحافظات الجنوبية مهملة على الرغم من أهميتها الاستراتيجية. من أبرز الأسباب التي تسهم في هذا التفاوت هو تفشي الفساد في مؤسسات الدولة، مما يؤدي إلى سوء إدارة الموارد العامة وغياب التخطيط الفعّال. في المحافظات الجنوبية، غالبًا ما تتحكم المصالح الشخصية والحزبية في صياغة السياسات المحلية، مما ينعكس سلبًا على توفير الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة والبنية التحتية. هذه الممارسات لا تؤدي فقط إلى تبديد الموارد، بل تحبط أي محاولات لتطوير هذه المناطق بشكل مستدام. الوضع الأمني يعتبر عاملاً آخر يجب أخذه في الاعتبار عند تحليل هذه الفروقات. فقد شهدت الأنبار، على سبيل المثال، معاناة كبيرة خلال سنوات الحرب على الإرهاب، لكن الدعم الدولي الكبير ومشروعات إعادة الإعمار أعطت هذه المحافظة زخمًا نحو التحسن والتطور. أما المحافظات الجنوبية، وعلى الرغم من استقرارها الأمني النسبي، فإنها تفتقر إلى الاهتمام نفسه من قبل الحكومة أو الجهات الدولية. هذا الفارق في الدعم والتنمية يعمّق الهوة بين المحافظات. الاختلاف في نمط الحياة الثقافية والاجتماعية بين المحافظات يلعب أيضًا دورًا مهمًا. بعض المحافظات الجنوبية تعاني من هيمنة الولاءات العشائرية والطائفية، مما يؤثر على مستوى الوعي المجتمعي بأهمية المطالبة بحقوق التنمية بشكل منظم وعادل. في حين أن بعض المناطق الأخرى، مثل الأنبار، قد طورت ثقافة تركز على التعافي من الأزمات واستغلال الفرص المتاحة لتعزيز بنيتها التحتية وخدماتها. من جانب آخر، تلعب الاستثمارات المحلية والأجنبية دورًا محوريًا في تشكيل واقع التنمية. المحافظات الجنوبية، رغم غناها بالموارد الطبيعية كالمياه والنفط، تعاني من نقص كبير في الاستثمارات الفعالة بسبب البيروقراطية المعقدة والبيئة غير المستقرة اقتصاديًا وسياسيًا. هذا التباطؤ في جذب الاستثمارات يمنع تطوير المشاريع الكبيرة والصغيرة على حد سواء، مما يساهم في استمرار حالة الجمود التنموي في هذه المناطق. إحدى المشكلات الأساسية في المحافظات الجنوبية هي غياب الرؤية الإستراتيجية والتنظيم. التخطيط العمراني والثقافي غالبًا ما يكون عشوائيًا ويعتمد على حلول آنية دون وضع سياسات طويلة الأمد تهدف إلى تحسين جودة الحياة وتنمية المدن والقرى. على العكس، فإن المحافظات التي عانت من الصراعات مثل الأنبار استفادت من التخطيط الممنهج المرتبط بجهود الإعمار، ما أسهم في تحقيق قفزات في مختلف المجالات. يمكن القول إن الفوارق التنموية بين المحافظات السنية والشيعية في العراق ليست نتيجة لعوامل ديموغرافية أو طائفية بحتة، بل تعود إلى سلسلة من الإخفاقات السياسية، والفساد المستشري، وسوء تخصيص الموارد، بالإضافة إلى نقص الاستثمارات والرؤى التنموية الفعّالة. تحتاج المحافظات الجنوبية إلى تبني سياسات جديدة ترتكز على الشفافية، والمساواة في التوزيع، وتطوير البرامج المجتمعية، واستقطاب الاستثمارات، مع تعزيز الرقابة الشعبية لضمان تنفيذ خطط تنموية متكاملة. عندها فقط يمكن للعراق أن يشهد تنمية عادلة وشاملة تلبي احتياجات كل محافظاته دون استثناء.